السبت، 13 أبريل 2013

تصنيف العلوم عند العرب عبد القادر حمدي


                                    تصنيف العلوم عند العرب                   عبد القادر حمدي

 

يسعى هذا البحث إلى تقديم بعض الملاحظات الأولية حول إشكالية تصنيف العلوم عند العرب، ولذلك لن نعمد فيه إلى تتبع فكرة التصنيف وتطور أشكالها ومختلف القضايا الفكرية والمنهجية والعلمية التي تثيرها، لأن لهذا سياقه الخاص به، ونأمل أن تتاح لنا فرصة قادمة لمعالجة بعض هذه القضايا المتصلة بنظم المعرفة وبأنساق التفكير في العلوم وطرق تحصيلها وما أصاب النظر في تصنيفها من تطورات وتحولات عبر العصور.
لا تخفى أهمية البحث في مسألة تصنيف العلوم في الحضارة العربية الإسلامية، ولكن الملاحظ هو أن هذا الموضوع لم يحظ بما يستحقه من العناية من لدن المهتمين بتأريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، وذلك على الرغم من العناية الخاصة المتميزة التي أولاها العلماء المسلمون لهذا الموضوع منذ المراحل الأولى لتأسيس العلوم في المجتمع العربي، على الرغم من نوعية مساهمتهم العلمية في هذا المجال، وهي مساهمات تعكس جوانب مشرقة من إبداعاتهم العلمية، مما دفع بالمستشرق "فرانز روزنتال" إلى التنويه بالمجهودات العربية في مجال تصنيف العلوم وعرضها بطرق منظمة، إذ جعل مؤلفاتهم ورسائلهم تمثل مشروعا علميا بارزا ومتميزا عن التصنيفات الإغريقية السابقة(1)
وبالنظر في المؤلفات والرسائل الكثيرة التي خلفها العلماء المسلمون في هذا المجال، عبر التاريخ العربي ومن غير انقطاع أو توقف في أي مرحلة من مراحله، يتبين لنا غزارة المادة العلمية وتنوعها من مؤلف لآخر، ومن مرحلة تاريخية لأخرى، مما يؤكد عمق انشغال المسلمين بهذا الموضوع منذ المراحل الأولى التي واكبت تأصيل العلوم العربية الإسلامية، وما رافق ذلك أيضا في العصور اللاحقة من اتصال بالثقافات الأجنبية بواسطة طرق النقل والترجمة المعروفة، وبخاصة بالثقافة الإغريقية التي سبق لها أن عرفت هذا النوع من البحث والدراسة، وذلك في بعض ما أثر عن أفلاطون وأرسطو، على قلته وضآلة قيمته،(2) مقارنة بتصنيفات العلماء المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومسالكهم في تقسيم العلوم وترتيب المعارف، سواء منها تلك التي نبعت من عنايتهم بالقرآن والحديث والشعر، أو تلك التي تجسد جهودهم الكبيرة في العلوم الطبيعية والتجريبية والرياضية وللتدليل على ذلك هنا، لابد من التنبيه إلى أنه لم يؤثر عن أفلاطون ولا أرسطو، أنهما خلفا كتابا مستقلا في تصنيف العلوم، كما أن هذا التأليف المستقل لم يتحقق في التاريخ الإنساني عامة إلا على يد الفارابي (أبو نصر محمد بن طرخان) ت.339هـ، وذلك في كتابه الشهير "إحصاء العلوم"،(3) وهذا إذا ما استثنينا محاولتي كل من جابر بن حيان في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، والكندي (ت. 252هـ أو 260هـ) ؛ وذلك لأنهما على الرغم من مشاركتهما في تقديم محاولة تصنيفية للعلوم، فإنهما لم يتركا رسالة أو مؤلفا خاصا بهذا الموضوع،(4) حيث جاء تقسيمهما للعلوم في سياق الحديث عن حدود الأشياء والمفاهيم التي عرضا لها في رسالتيهما في الحدود.(5)
وعلى الرغم من أن المساهمات العربية في مجال تصنيف العلوم تعد مساهمات نوعية متميزة، فإن أغلب الدارسين الغربيين الذين اهتموا بالتأريخ للعلوم، أو بتتبع مراحل التأليف في هذا الموضوع، قد تجاهلوا تجاهلا غير مبرر وغير موضوعي، الإشارة إلى دور المساهمات العربية في تطوير علم التصنيف بصفة عامة، بل إنهم أقصوها من مجال التاريخ، حيث انطلقوا من التجربة اليونانية ممثلة فيما عرف عن أفلاطون وأرسطو، وقفزوا على المؤلفات العربية وتخطوها ليصلوا مباشرة إلى المؤلفات الغربية التي ظهرت في أوربا منذ بداية النهضة الغربية كما تجسدت في أعمال روجر بيكون (1214-1268م) وفرنسيس بيكون (1561-1625م) وغيرهما.
يعد "علم التصنيف" واحدا من أهم المباحث العلمية التي ازدهرت بشكل ملحوظ في الحضارة الإسلامية ؛ فقد أصبح بعد فترة وجيزة من انطلاق الحركة العلمية في المجتمع العربي، علما قائما بذاته له مبادئه وأصوله وأهدافه، بالإضافة إلى ممثليه من العلماء والفلاسفة والمفكرين، الذين تصدوا للتعريف به، وبيان مقاصده، وطرقه، ومناهجه في تنظيم المعرفة وحصر مجالاتها وأوجه تحصيلها، وكذا مسالك ترتيبها أصولا وفروعا وأجزاء.
وعلى الرغم من كونه أداة تنظيمية للمعرفة، تسعى إلى ترتيب العلوم، وحصر موضوعاتها ومناهجها وفق تصور فلسفي معين، فقد اختلف بشأنه بين كونه جزءا من فلسفة العلوم، وبين كونه سابقا عليها أو تابعا لها ؟ بمعنى أنه بمثابة موقف نقدي لما ينبغي أن تكون عليه العلوم في واقع الحياة البشرية لأن الفلسفة: "تعنى بتحليل أو تبرير المبادئ والمسلمات التي تقوم عليها العلوم".(6)
ومهما يكن من أمر، فإن الذي ينبغي التأكيد عليه هو أن علم التصنيف سواء اعتبر علما قائما بذاته، أو نظر إليه على أنه جزء من التفكير الفلسفي المندرج ضمن ما يعرف بفلسفة العلوم، فإنه لا يكاد ينفك عن النظر الفلسفي، لأن أبرز مهماته تتمثل في تحديد المبادئ المعرفية الأولى التي تتخلل العلوم جميعها، كما أنه يمثل الجانب النقدي للأسس والأنساق العلمية المتعددة سواء بالنظر إلى بعضها كل على حدة، أو بالنظر إلى أنماط العلاقات وأشكال الارتباط التي تجمع بين أنواع العلوم أو تتخللها أفقيا أو عموديا. ومن هنا فهو يسعى إلى الكشف عن حدود العلوم ومجالات عملها، وكذا بيان تقاطعاتها. كما يهدف، بصفة عامة إلى الوقوف على موجهات إخضاعها لنمط معين في التقسيم والترتيب، بحسب طبيعتها وموضوعاتها وغاياتها. فهو إذن من صميم التفكير الفلسفي الذي يعنى بتنظيم أطر المعرفة البشرية، ولذلك يقترن بشكل قوي عند المهتمين، برؤاهم المنهجية لطبيعة العلوم، وحدودها وكذا العلاقات التي تنتظمها. وسوف تتضح هذه الأبعاد الدلالية للتصنيف حين نعرض لدلالة الكلمة في تداولاتها العلمية والإجرائية.
التصنيف في اللغة:
التصنيف في اللغة هو: "تمييز الأشياء بعضها من بعض، وصنف الشيء: ميز بعضه من بعض، وتصنيف الشيء جعله أصنافا".(7)
و "صنف الأشياء: جعلها صنوفا وميز بعضها من بعض، ومنه تصنيف الكتب، وشجر مصنف: مختلف الألوان والثمر".(8)
وجاء في: "تكملة المعاجم العربية" الذي وضعه المستشرق الهولندي دوزي (1820-1883م) ما نصه: "صنف: رتب الكتاب حسب مواده وموضوعاته، ويقال الكتب المصنفة، وهي الكتب التي رتبت بهذه الطريقة وصنف: اختلق الكلام كذبا من غير أصل... والصنف (بفتح وكسر): أسرة، عشيرة، أمة، والصنف: الطائفة، أهل الحرفة".(9)
التصنيف في الاصطلاح:
لا تكاد تختلف المفاهيم الاصطلاحية لمصطلح التصنيف في دلالتها العامة عن الدلالة اللغوية المشار إليها سابقا، لأنه لا يخرج عن كونه يفيد ترتيب الأشياء أو العلوم في أقسام أو مجموعات بالنظر إلى العناصر المشتركة بينها، ولذلك يعد من أبرز الوسائل المنهجية المعتمدة في تنظيم الأشياء التي تربط بينها صفات وخصائص مشتركة، تشكل ما يمكن تسميته بالطائفة أو الصنف أو المجموعة.(10) فهو إذن يطلق على كل عملية منهجية تسعى إلى تنظيم الأشياء، والأفكار، والعلوم في مجموعات وفق درجات تشابهها وبحسب مبادئ وقواعد عامة، ومن هذا المعنى أخذ تصنيف الكتب أي تأليفها.
كما يطلق التصنيف أيضا ويراد به ترتيب وسائل ومصادر المعرفة، وإخضاعها لنسق معين في التنظيم، بحيث يكون من اليسير استعادة المعلومات المطلوبة واسترجاعها في أي حقل من حقول المعرفة البشرية، وبطريقة سريعة وناجعة، ولذلك ينعت التصنيف بأنه: "مفتاح تخزين المعلومات في أي ميدان".(11)ومن هذا المنطلق، يلاحظ أن هناك من يعرف العلم نفسه بأنه: "تنظيم المعارف وتصنيفها على أسس إيضاحية".(12)
ولقد حدد "برويك سايرز" Sayers W.C.B  للتصنيف معنين رئيسيين:
1 ـ المعنى المنطقي وينعت به العملية الذهنية التي يتم من خلالها إدراك التشابه أو الوحدة بين العناصر المرتبطة بعضها ببعض.
2 ـ المعنى العلمي الواقعي الذي يفيد ترتيب الأشياء الفعلية الواقعية وهذا هو التصنيف العملي(13) لأنه يمثل الترتيب المجرد للأشياء.
وبالنظر فيما سبق، يمكن القول إن تصنيف العلوم عمل منهجي في الصميم لأنه يعمل على تنظيم العلوم وحصرها أو إحصائها في كليات وأجزاء وفروع، مع بيان أوجه العلاقات التي تربط بينها، بالإضافة إلى أن التصنيف، يقتضي بالضرورة محاولة تحديد موقع كل علم من العلوم المصنفة ضمن سلسلة العلوم، بحيث يعمد المصنف إلى ترتيب العلوم في مجموعات، فيصنفها ويبين موضوعاتها ومناهجها في تحصيل المعارف وتحقيق المقاصد المطلوبة من كل علم على حدة. ومن هنا فلا تنحصر مهمة المصنف في مجرد الوصف (الواقعي) للمعارف والعلوم المعاصرة له، بل إنه يساهم بعمله التصنيفي في تطوير فهمنا للأنظمة المعرفية على اختلافها وتنوع مجالاتها وأساليبها.(14)
إن أهمية علم التصنيف، بغض النظر عن طرقه ومناهج أصحابه في تقسيم العلوم وترتيبها، لا تنحصر فقط في وضع الحدود الفاصلة بين العلوم والمعارف، التي تشكل البناء الهيكلي العام لأي نظام تصنيفي، بل إنها بالإضافة إلى ذلك، لا تظل حبيسة الجانب الوصفي لما هو كائن من علوم العصر فحسب، وإنما تمتد إلى بيان ما يراه المصنف من منطلقه الخاص، جديرا بالوصف والترتيب والحصر، مما يفيد أن علم التصنيف لا يتحدد فقط في بعده الوصفي الصرف، وإنما يتدخل فيه المصنف الذي يخضع العلوم المصنفة انطلاقا من موقفه العام، وانطلاقا من تصوراته "الذاتية" أي من رؤيته ؛ ليس لما هو كائن فحسب وإنما لما ينبغي أو يجب أن يكون في مضمار العلم. ولذلك يجب التأكيد على أن أي عمل تصنيفي أو إحصائي للعلوم، لا ينفك أبدا عن رؤية معيارية توجه عمل المصنف وتدفع صاحبه إلى إخضاع العلوم المصنفة لموقفه من المعرفة والوجود والتربية وفي هذا دليل على أن كل محاولة تصنيفية رهينة بالإطار التاريخي والثقافي للمرحلة التي تظهر فيها، أو تتأطر بها، ذلك أن كل عمل تصنيفي لا ينفك عن أن يكون صادرا من موقف يعكس جانبا خاصا من جوانب الموقف العام من علوم العصر نفسه.(15)
بناء على ما سبق نقول إنه في كل عمل تصنيفي يتداخل  الجانب الوصفي للأنساق العلمية المعاصرة، بالبعد المعياري(16) الذي يصبغ البناء العام للتصنيف برؤية صاحبه وما يشكلها من خلفية فكرية وإيديولوجية: "لأن هذا العلم يحمل عبر تاريخه في طيات مسحته الإحصائية الوصفية أبعادا إيديولوجية عقدية، كما ظل يعكس الخصائص الفكرية والثقافية للبيآت التي تحتضنه، والأعلام الذين عرفوا بالتأليف فيه خاصة عندما يتعلق الأمر بطور من أطوار التجديد".(17)
ومعنى ذلك أن كل تصنيفات العلوم، سواء في مرحلة تاريخية معينة أو بالنظر إلى المراحل التاريخية المتعاقبة، ليست مجرد حصر منطقي أو إحصاء تقني لعلوم العصر فحسب، وإنما هي صورة من صور الحياة العقلية والفكرية والتربوية للمجتمع الذي تظهر فيه، ولذلك فتصنيف العلوم لا يمكنه أن يتم خارج الإطار التاريخي والثقافي العام لحركة المجتمع الذي يحتضنه. ولعله بسبب من هذا الارتباط، عمد ابن خلدون (ت. 808هـ) إلى الربط بين التاريخ الحضاري العام للمجتمع العربي وبين نشوء العلوم وتطورها، تبعا لما عرفه المجتمع العربي في مساره التاريخي من تحولات عقلية وعلمية وفكرية وحضارية، بحيث إنه في مقدمته: "يعرض لتاريخ العلم في إطار التاريخ العام للمجتمع الإسلامي، ومن ثم فهو لم يفصل بين العلم وبيئته وفلسفته".(18)
وبالنظر فيما سبق، تتبين أهمية المؤلفات التي تصدت لتصنيف العلوم عبر مختلف مراحل التاريخ العربي، ذلك أنها تمدنا بمعطيات مفيدة جدا للوقوف على مسيرة البحث العلمي في الحضارة العربية الإسلامية، مع بيان مدى العناية الخاصة التي حظي بها العلم ضمن الانشغالات الكبرى للمجتمع العربي، فضلا عن كونها ترصد تطور المفاهيم العلمية من عصر لآخر،(19) عن طريق حصر مصطلحاتها وبيان إجراءاتها وتطبيقاتها في مختلف المجالات التي تستخدم فيها.
ويعد كتاب "مفاتيح العلوم" للخوارزمي (387هـ) بالإضافة إلى "رسالة الحدود" لجابر بن حيان من خير المؤلفات التي عنيت بإبراز هذه الجوانب في سياق العناية بتصنيف العلوم عن طريق التركيز على بيان دلالات المصطلحات الدائرة بين أهل هذا الاختصاص أو ذاك. وقد شكل هذا الاتجاه المنهجي في تصنيف العلوم نموذجا متميزا، لأن أصحابه عمدوا إلى بناء الهيكل التصنيفي الذي ارتضوه من زاوية اصطلاحية صرف، فاتجه عملهم إلى الجوانب اللغوية التي تحقق للعلم دقته ووضوحه وأهدافه الإيضاحية، ولقد انصبت جهودهم على العناية ببيان مفهومات المصطلحات المتداولة بين أهل العلم،(20) أو بين أولئك الذين يتداولون نتائجه أو تحليلاته ومفاهيمه من العلماء الآخرين، أو الأدباء، وكل من له صلة بعمل من أعمال الإدارة والتسيير أو الفكر والنظر. وقد استقر في ذهن أصحاب هذا الاتجاه أن العناية بدلالة المصطلحات يجب أن تتصدر الاهتمام، لأنها هي السبيل إلى تقدم العلوم وتطورها، كما أنها هي التي تضمن للمشتغلين بالعلوم تحقيق درجات عليا من التواصل والتفاهم والاقتصاد في اللغة، وتحول دون مظاهر اللبس والغموض وعدم التدقيق في لغة العلم(21) التي من أبرز خصائصها الدقة والوضوح ووحدة المعنى. ولقد تبنه أبو عبد الله الخوارزمي إلى ضرورة العناية بلغة العلم، وذلك ببيان دلالة الألفاظ والمصطلحات العلمية المتداولة في كل علم من علوم عصره. ولهذا يمكن اعتبار كتابه معجما اصطلاحيا جمع فيه مصطلحات العلوم والفنون والآداب التي كانت رائجة في زمانه، ولقد عبر عن كل ذلك هو نفسه في مقدمة كتابه فقال: "دعتني نفسي إلى تصنيف كتاب يكون جامعا لمفاتيح العلوم وأوائل الصناعات، متضمنا ما بين كل طبقة من العلماء من المواضعات والاصطلاحات التي خلت منها أو من جلها الكتب الحاصرة لعلم اللغة حتى إن اللغوي المبرز في الأدب، إذا تأمل كتابا من الكتب التي صنفت في أبواب العلوم والحكمة، ولم يكن شدا صدرا من تلك الصناعة، لم يفهم شيئا منه وكان كالأمي الأغتم عند نظره فيه".(22)
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الخوارزمي وضع لكتابه هيكلا تصنيفيا طريفا  بناه على مقالتين: خصص الأولى للعلوم الشرعية وما يتصل بها من العلوم العربية، وخصص الثانية لعلوم العجم من اليونانيين وغيرهم من الأمم،(23) وقد نحا بذلك منحى تأصيليا(24) يستمد تصوره لبنية التصنيف من طبيعة العلوم كما هي في واقع المجتمع العربي نشوءا وارتقاء وتطورا وازدهارا، وهو بذلك تحرر إلى حد كبير من تأثير التقسيم الأرسطي الذي فرض نفسه على كثير من التصنيفات العربية للعلوم، إذ صدر تصنيفه بالعلوم الشرعية وما يتصل بها من علوم العربية، وهذا على العكس مما نجده مثلا عند الفارابي (339هـ) في "إحصاء العلوم" أو عند إخوان الصفا (منصف القرن 4هـ) في رسائلهم،(25) أو عند ابن سينا (428هـ) في رسالته "أقسام العلوم العقلية"، إذ تأثر هؤلاء تأثرا واضحا بالفلسفة اليونانية، فجاءت مؤلفاتهم مقلدة ـ بدرجات متفاوتة ـ للهيكل العام للتصنيف الأرسطي، بحيث يخلو بعضها ـ كما هو الشأن عند ابن سينا ـ من أي ذكر للعلوم الإسلامية أو العربية. وأما عند الفارابي وإخوان الصفا، فإن العلوم الإسلامية، بقيت في الظل، بل على هامش التصنيفين معا: حيث أدرج الفارابي (علم الفقه وعلم الكلام) ضمن العلم المدني، فجعلهما تابعين للسياسة المدنية،(26) بل إنه حين اتجه إلى بيان مقصوده من (علم الفقه) لم يقصد به (علم الفقه الإسلامي) بصفة خاصة، وإنما قصد به مطلق الاجتهاد عند كل أمة من الأمم، بغض النظر عن انتمائها لملة دون أخرى.(27) أي أنه يجرد المصطلح من صبغته الإسلامية ليعطيه بعدا عاما وشاملا لكل أنواع الفقه والاجتهاد التي يقوم بها الإنسان في بيئته ومجتمعه ومحيطه الخاص.
وبناء على ما سبق، يمكن القول: إن علم التصنيف عبارة عن مجموعة من المبادئ والقواعد التي تنظم المعرفة وتخضعها لنسق ترتيبي معين، يهدف إلى تكوين قائمة أو خريطة عامة تصنف فيها العلوم داخل فئات أو طبقات، طبقا لتصور فلسفي أو إيديولوجي معين، يعتمد الانطلاق في تصنيف العلوم من النظر إلى موضوعها ومنهجها وغايتها، وعلاقاتها.
ولعل من أشهر تعريفات هذا العلم عند المسلمين، ذلك التعريف الذي أعطاه طاش كبرى زادة (968هـ) في كتابه: "مفتاح السعادة"، حيث يسميه "علم تقاسيم العلوم"(28)ويعرفه بأنه هو "علم باحث عن التدرج من أعم الموضوعات إلى أخصها ليحصل بذلك موضوع العلوم المندرجة تحت ذلك الأعم، ولما كان أعم العلوم موضوعا العلم الإلهي، جعل تقسيم العلوم من فروعه، ويمكن التدرج فيه من الأخص إلى الأعم على عكس ما ذكر، لكن الأول أسهل وأيسر. وموضوع هذا العلم والغاية والغرض منه ومنفعته كلها لا يخفى على أحد".(29)
وبعيدا عن المضي في تسجيل بعض الملاحظات على تعريف أحمد بن مصطفى (طاش كبرى زادة)، الذي يعرف عند المهتمين بأنه أول من عرف هذا العلم وجعله علما مستقلا قائما بموضوعه ومنهجه وغايته!(30) ولابد أن نشير إلى أن في مثل هذا الموقف ضربا من المغالطة التي يجب بيان حقيقتها: صحيح أن طاش كبرى زادة هو الذي أفرد للتصنيف موقعا مستقلا في سلسلة العلوم القابلة للتصنيف، ولكن ينبغي التنبيه إلى أنه اعتمد بشكل ملحوظ في مؤلفه الضخم "مفتاح السعادة" على محاولة تصنيفية متميزة، وهي التي قام بها أبو عبد الله محمد بن ساعد الأنصاري المعروف بابن الأكفاني (ت 749هـ) في كتابه الموسوم بـ: "إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد".(31)
ولما كان المجال لا يسمح بالتفصيل في أوجه التأثير والتأثر بين الكتابين السابقين، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن ابن الأكفاني، قد سبق أحمد بن مصطفى إلى تقسيم العلوم على أساس موضوعي(32) (نسبة إلى الموضوع، وليس إلى الموضوعية!)، كما أنه اعتمد في تصنيفه على المؤلفات، وليس على مجرد التقسيم، الفلسفي، وهو ما نجده أيضا عند أحمد بن مصطفى مع توسع الأخير في عرضها بسبب تقدم العلوم، وتأخره زمنيا عن ابن الأكفاني. وبالإضافة إلى ما سبق، يلاحظ اتكاء طاش كبرى زادة في كثير من المقدمات النظرية التي استهل بها مؤلفه الموسوعي الضخم على بعض ما جاء في : "إرشاد القاصد".
وإذا رجعنا إلى مسألة الأساس العلمي في تقسيم العلوم وترتيبها، فالملاحظ أن ابن الأكفاني التفت إلى أنواع التقسيمات الممكنة التي يمكن أن تخضع لها العلوم، بل إنه يصرح وبشكل واضح بأصول فكرة التدرج التي بنى عليها طاش كبرى زادة تصنيفه المعروف، يقول ابن الأكفاني: "والقسمة المستعملة في العلوم أصناف، فمنها: قسمة العام إلى الخاص، وقسمة الكل إلى الأجزاء،وقسمة الكلي إلى الجزئيات، كقسمة الجنس إلى الأنواع، وقسمة النوع إلى الأشخاص، وهذه قسمة ذاتي إلى ذاتي، وقد يقسم الكلي إلى الذاتي والعرضي، وقد يقسم الذاتي إلى العرضي، كالإنسان إلى أبيض وأسود، والعرضي إلى الذاتي، كالأبيض إلى إنسان وغيره، والعرضي إلى العرضي، كالأبيض إلى الطويل والقصير، والتقسيم الخاصي هو المردد بين النفي والإثبات".(33)
ولقد ذهب ابن الأكفاني إلى أبعد من هذا حين تنبه إلى أن عملية تصنيف العلوم في حد ذاتها، وسيلة من أهم الوسائل المعتمدة في التعليم والتعلم، أي أنها من الطرق التي يستند إليها في تحقيق الغاية القصوى من التربية، إلى جانب الطرق الأخرى التي حصرها في "التركيب والتحليل والتحديد والبرهان". يقول في سياق بيان أنحاء التعليم: "وأما نحو التعليم المستعمل فيه: فهو بيان الطريق المسلوك في تحصيل الغاية.
وأنحاء التعليم خمسة: التقسيم وقد ذكر، والتركيب، وهو: جعل القضايا مقدمات تؤدي إلى مطلوب، والتحليل وهو: إعادة تلك المقدمات، وإنما نذكر للانتقاد، والتحديد وهو: ذكر الأشياء بحدودها الدالة على حقائقها دلالة تفصيلية، والبرهان، وهو قياس صحيح عن مقدمات صادقة يوقف منه على الحق اليقين والخبر، وإنما يمكن استعماله في العلوم الحقيقية، وأما ما عداها فيكتفى بالإقناع".(34)
فالتقسيم إذن، والمقصود هنا هو تقسيم العلوم أي تصنيفها وترتيبها في بناء هيكلي معين، لا يعد عند ابن الأكفاني وسيلة من وسائل تنظيم المعارف فقط، بل هو أيضا وسيلة من وسائل تحقيق الأهداف التعليمية والتربوية، إلى جانب الوسائل الأخرى التي ذكرها. فله إذن وظيفة مزدوجة الأبعاد من حيث إنه ينظم المعارف ويضبط العلوم من جهة، كما يحقق المعرفة بالحقائق العلمية ذاتها، مما يفيد أنه بالإضافة إلى بعده الابستمولوجي، الذي : "يعنى بالبحث في النظرية العامة للعلم من حيث إمكان المعرفة العلمية ومصادرها ووسائلها وطبيعتها"،(35)فإن له بعدا تربويا يتمثل في تسهيل عمليات التعليم وتحقيق التعلم، ويمكن القول إن كثيرا من جهود العلماء المسلمين التي تتضمنها محاولاتهم التصنيفية المتواصلة عبر العصور، تنطلق من هذين البعدين المتلازمين في إطار منهجي معرفي تربوي، ولذلك فأغلب المؤلفات في هذا المجال، تتضمن مقدماتها ربط هذا العلم بغايات محددة لا تخرج ـ رغم تعددها وتنوعها من مؤلف لآخر ـ عن البعدين السابق ذكرهما. وهذا الكلام يجرنا إلى الحديث عن الأغراض المتوخاة من عملية تصنيف العلوم كما تصورها العلماء العرب.
مقاصد تصنيف العلوم : تتعدد التسميات الدالة على موضوع هذا العلم عند العرب، فهناك من يسميه "علم أقسام العلوم،(36) ومن يسميه: "علم أجناس العلوم،(37) وهناك أيضا من يصفه بعلم التقاسيم،(38) بالإضافة إلى أن هناك من يكتفي بالحديث عن طبقات العلوم،(39) أو أنواع العلوم،(40) إلى غير ذلك من التسميات والصفات أو الصيغ اللغوية المركبة التي دأب العرب على استعمالها للدلالة على موضوع هذا العلم وطبيعته.
ولا يخفى أن هذا التعدد، أو الاختلاف في المصطلحات الدالة على هذا العلم بقدر ما يعكس نوعا من الاضطراب أو الفوضى اللغوية ! فهو يدل من جهة أخرى على غنى وتنوع المحاولات التصنيفية من عالم لآخر، ومن عصر لآخر، علما بأن هذا الاختلاف يظل اختلافا لغويا لا يكاد يمس المنطلقات ولا الأهداف التي تقف وراء تلك المحاولات العلمية الرائدة. ذلك أنها محاولات ـ على اختلافها وتعددها ـ إنما تعكس عند التأمل، تجذر وعمق التفكير العلمي المنظم في الحضارة العربية الإسلامية، كما تعكس استمراريته واطراد العناية بتصنيف العلوم والمعارف حتى في فترات الضعف والاضطراب السياسي التي اعترت الحياة العربية في أمصارها المختلفة، إذ لم يخل عصر من عصور التاريخ العربي من مؤلف أو مؤلفات، تناولت هذا العلم بشكل مستقل أو في سياق الاهتمام به داخل مؤلفات موسوعية عامة. ويمكن أن نرصد لتطور حركة التأليف في هذا العلم بالإشارة إلى أبرز المؤلفات بحسب تسلسلها التاريخي:(41)
1 ـ رسالة الحدود لجابر بن حيان (منتصف القرن الثاني الهجري).
2 ـ رسائل الكندي (ت 260هـ).
3 ـ إحصاء العلوم للفارابي (ت 339هـ)، و"التنبيه على سبيل السعادة" له أيضا.
4 ـ رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا (منتصف القرن 4هـ).
5 ـ الفهرست لابن النديم، ألف سنة 377هـ.
6 ـ مفاتيح العلوم للخوارزمي (ت 387هـ).
7 ـ رسالة في أقسام العلوم العقلية، لابن سينا (ت 428هـ) وكتاب "الشفاء" له أيضا.
8 ـ رسالة "مراتب العلوم" لابن حزم (ت 456هـ).
9 ـ "طبقات العلوم" للأبيوردي (أبو المظفر محمد بن أحمد، (ت 507هـ).
10 ـ الأمالي من كل فن للزمخشري (ت 538هـ).
11 ـ حدائق الأنوار وحقائق الأسرار للفخر الرازي (ت 606هـ).
12 ـ إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد لمحمد بن ساعد الأنصاري المعروف بابن الأكفاني (ت 749هـ).
13 ـ المقدمة لابن خلدون (ت808هـ).
14 ـ كتاب في موسوعات العلوم للبسطامي (القرن 9هـ).
15 ـ المطالب الإلهية لمولى لطف الله (ت 900هـ).
16 ـ أنموذج العلوم لجلال الدين الدواني (ت 920هـ).
17 ـ مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم لطاش كبرى زادة (ت 968هـ).
18 ـ فهرست العلوم لحافظ الدين العجمي (ت 1055هـ).
19 ـ كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (ت 1068هـ).
20 ـ القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم لأبي علي الحسن بن مسعود اليوسي (ت 1112هـ).
21 ـ كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي الفاروقي (ت 1158هـ).
22 ـ أبجد العلوم لصديق بن حسن القنوجي (ت 1307هـ).
وبالنظر في أغلب مقدمات هذه المؤلفات، يتبين أنها لا تكاد تختلف حول المقاصد الكبرى من التأليف في هذا الموضوع، وعلى الرغم من تباين هذه المؤلفات في الموضوعات والمناهج ومجالات العناية والاهتمام، بالإضافة إلى الاختلاف في المنطلقات والتوجهات العامة، فإنها تكاد تتفق على أن إحصاء العلوم وتصنيفها، فضلا عن التمييز بينها من حيث الموقع والأهمية ضمن سلسلة العلوم الرئيسية المختلفة التي تشكل البناء الهيكلي لهذا التصنيف أو ذاك، تظل الأهداف الرئيسة التي سعى إليها أغلب المصنفين في القديم والحديث.
ولعل الفارابي (339هـ) يعد من أوائل العلماء الذين كشفوا عن طبيعة التأليف وأهدافه في هذا المجال، يقول في مقدمة "إحصاء العلوم" مبينا غايته من التأليف: "قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها وأجزاء كل ما له منها أجزاء، وجمل ما في كل واحد من أجزائه".(42)
وقد ذهب عثمان أمين في مقدمة تحقيقه لإحصاء العلوم إلى أن الفارابي لم يقصد إلى أن يكون كتابه "الإحصاء" بحثا في ترتيب العلوم وتصنيفها بقدر ما أراد أن يكون إحصاء للعلوم نفسها، وبسط الكلام فيها، من غير أن يتعرض فيه للكلام عن مذهبه هو في تصنيف العلوم !(43) كما ذهب الباحث نفسه إلى أن الفارابي قصد "أن يكون كتابه مختصرا لعلوم زمانه ومرشدا موجزا لمن أراد الوقوف عليها أو التبحر فيها".(44)
ولكن النظر في كتاب "الإحصاء" للفارابي يبين أنه لم يعمل على إحصاء العلوم الواقعة على عهده، فالكتاب لا يتضمن في الحقيقة مختلف العلوم الشرعية واللغوية والعربية التي ازدهرت في القرن الرابع الهجري، مما يدل على أنه لا يفي بغرض الإحصاء الذي يقتضي حصر كل العلوم العربية والشرعية والدخيلة التي كانت موجودة في زمانه، على الرغم من تصريحه الواضح بأنه يسعى إلى إحصاء العلوم علما علما ! مما يدل على أنه سعى في كتابه إلى تصنيف العلوم، وفق تصور مسبق للمعرفة، وليس وفق ما هو حاصل منها في واقع المجتمع العربي فيما بين نهاية القرن الثالث الهجري والعقود الأربعة الأولى من القرن الرابع الهجري.
إن عمله في إحصاء العلوم كما يذهب محققا كتاب مفتاح السعادة، عمل تصنيفي لأنه يرسم حدود العلوم وأجزاءها وعلاقاتها، وهذا عمل تصنيفي من الطراز الأول وهذه هي مهمة علم التصنيف فلقد كان بوسع الفارابي أن يختار ترتيبا آخر لو لم يكن هذا ترتيبه المفضل، فسواء قصد أو لم يقصد، صرح أو لم يصرح فإن عمله عمل تصنيفي ولا مجال للشك في ذلك.(45)
وقد يتأكد هذا المنحى التصنيفي للكتاب الذي يخلو من الإحصاء الدقيق لعلوم العصر ومعارف المرحلة التي عاش فيها الفارابي، بالنظر إلى الطابع التجريدي الذي غلب على الكتاب، فصبغه بصبغة انتقائية واضحة ألغت كثيرا من العلوم العربية والإسلاميـة، وجعلت بعضها في هامـش الكتاب، كما هو الشأن ـ مثلا ـ مع علم الفقه وعلم الكلام، اللذين جعلهما مندرجين ضمن العلم المدني في قسم العلوم العملية،(46) ولا يخفى أن السبب في ذلك يرجع إلى المنطلق النظري/الفلسفي الذي وجه عمل الفارابي، وهو منطلق لم يسع في الحقيقة إلى وصف العلوم الواقعة في عصره، بقدر ما سعى إلى وضع قوانين كلية لجميع العلوم الممكنة، بغض النظر عن تحققها الفعلي في هذه البيئة أو تلك، وبغض النظر عن انتماءاتها الدينية أو الجغرافية أو الإيديولوجية، فهو إذن ليس إحصاء بالمعنى الدقيق، على الرغم من عنونته كتابه بـ "الإحصاء" وإنما هو محاولة لضبط الأشياء المشتركة في كل صناعة وتحديدها انطلاقا من طبيعة العلم في نفسه ومبادئه الكلية التي تكون مشتركة بين كل الأمم، بمعنى أنه محاولة لوضع القوانين الكلية التي توجه كل علم من العلوم، وعند كل أمة من الأمم، بغض النظر عن خصوصيات بعض العلوم عند هذه الأمة أو تلك، وليس أدل على ذلك من أن كلامه في الفصل الأول الذي خصصه لعلم اللسان يرتكز على هذا التصور الذي ينصب على ضبط معاقد هذا العلم في كليته بما يفيد انسحاب تلك القوانين التي سطرها على كل الألسن وعند كل الأمم، وفي ذلك إلغاء لمميزات كل لغة وخصائصها الصوتية والصرفية والتركيبية. ولذلك لا نجد في هذا الفصل حديثا مفصلا عن خصائص اللغة العربية ومميزاتها، أو كلاما عن القواعد النحوية أو الصرفية أو الصوتية التي سبق للغويين العرب أن استخرجوها واستنبطوها في سياق تعاملهم مع نصوص القرآن والشعر العربي، وكل ما نجد عنده هو مجرد بعض الأمثلة التوضيحية التي تقرب فكرة عامة أو توضح قضية من القضايا التي قد تبدو غامضة تحتاج إلى أمثلة تقريبية، والملاحظ أن هذه الأمثلة غالبا ما تكون مقرونة بنظيراتها في اللسان اليوناني !!.(47)
قد يبدو مثل هذا الكلام غريبا ومخالفا لما عرف به كتاب الإحصاء من أنه إحصاء العلوم العربية والأجنبية التي ظهرت في المجتمع العربي، ولكن الاستناد إلى كلام الفارابي نفسه يزكي ما ذهبنا إليه من أن كتاب الإحصاء بعيد عن أن يكون في حصر العلوم المحققة وإحصائها، يقول الفارابي في سياق حديثه عن علوم اللسان: "علم اللسان في الجملة ضربان:
أحدهما حفظ الألفاظ الدالة عند أمة ما وعلم ما يدل عليه شيء منها، والثاني علم قوانين تلك الألفاظ".(48)
ثم يردف كلامه بحديثه عن مفهوم "القوانين الكلية"، ووظيفتها المنهجية والتعليمية بقوله: "والقوانين في كلصناعة أقاويل كلية، أي جامعة ينحصر في كل واحد منها أشياء كثيرة، مما تشتمل عليه تلك الصناعة وحدها حتى يأتى على جميع الأشياء التي هي موضوعة للصناعة أو على أكثرها، وتكون معدة إما ليحاط بها ما هو من تلك الصناعة لئلا يدخل فيها ما ليس منها، أو يشذ عنها ما هو منها، وإما ليمتحن بها ما لا يؤمن أن يكون قد غلط فيه غالط، وإما ليسهل بها تعلم ما تحتوي عليه الصناعة وحفظها".(49)
ثم يعود للحديث عن قوانين الألفاظ المفردة والمركبة فيقول: "إن الألفاظ الدالة في لسان كل أمة ضربان: مفرد ومركب، فالمفرد كالبياض والسواد والإنسان والحيوان، والمركب كقولنا: الإنسان حيوان
وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم إلى سبعة أجزاء عظمى: علم الألفاظ المفردة، وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب، وقوانين تصحيح الكتابة وقوانين تصحيح القراءة وقوانين الأشعار".(50) ثم يتحدث عن هذه الأجزاء في كليتها وشموليتها التي لا ترتبط بلغة معينة من اللغات، لأنه كما سبقت الإشارة يسعى إلى تأسيس قوانين كلية تستغرق كل اللغات والألسن، ومن ذلك قوله مثلا: "وأما الضرب الذي يعطي قوانين التركيبنفسه فإنه يبين أولا كيف تتركب الألفاظ وتترتب في ذلك اللسان، وعلى كم ضرب حتى تصير أقاويل، ثم يبين أيها هو التركيب والترتيب الأفصح في ذلك اللسان".(51)
لقد عني الفارابي في مقدمة كتابه "الإحصاء" ببيان مزاياه ومنافعه فحصرها في بعض الغايات التعليمية المرتبطة بتجزيء العلوم، وإدراج بعضها في الآخر، بهدف تيسير تعلمها وتسهيل تحصيلها، بالإضافة إلى تكوين صورة عامة عن مضمون العلوم ومجالات عملها، وطرق اشتغالها وتباين مناهجها، وكل ذلك بقصد المقارنة بينها تحقيقا لأيها أتقن وأوثق، وأيها أوهن وأوهى، يقول: "وينتفع بها في هذا الكتاب، لأن الإنسان إذا أراد أن يتعلم علما من العلوم وينظر فيه، علم على ماذا يقدم وفي ماذا ينظر، وأي شيء سيفيد بنظره، وما غناء ذلك وأي فضيلة تنال به، ليكون إقدامه على ما يقدم عليه من العلوم على معرفة وبصيرة لا على عمى وغرر.
"وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقايس بين العلوم، فيعلم أيها أفضل وأيها أنفع وأيها أتقن وأوثق وأقوى، وأيها أوهن وأوهى وأضعف".(52)
وبالنظر في مقدمات كتب إحصاء العلوم والفنون في الحضارة العربية الإسلامية، يتبين أن أغلبها يربط بين الإحصاء والتصنيف وبين طرق تحصيل العلوم من زوايا تربوية وتعليمية،(53) مما يدل على أن العرب قد أدركوا منذ القديم أهمية هذا النوع من المؤلفات ودورها في رصد حركة العلوم وطرق تحصيلها في أقرب وقت وبجهد أقل.(54)
وإذا كان من الصعب الحديث عن المحاولات الأولى لنشوء علم التصنيف في الحضارة الإسلامية، فمن الثابت المحقق أن العرب في الجاهلية لم يعرفوا علوما مدونة مضبوطة قائمة على نظريات علمية، وإن كانوا يعرفون بعض المعلومات التجريبية التي تشوبها الخرافة والخيال، وذلك في مجالات مختلفة كان أغلبها يتصل بطبيعة الحياة البدوية، وما تقتضيه من معرفة بأمور الصحراء والترحال، كالأنواء والرياح والبيطرة والتنجيم والعرافة والفراسة، والحيوانات الصحراوية، وبعض معطيات الأيام والتاريخ والجغرافية ولكنها ظلت معلومات فردية وبدائية لا تجمعها قوانين خاضعـة للتطبيق، العلمي السليم،(55) فضلا عن كونها ظلت معلومات شفويـة غير خاضعـة لنظام التدوين والكتـابة، ولعله من أجل ذلك، استبعدها أبو علي الحسين ابن مسعود اليوسي (1102هـ) ولم يجعلها من العلوم المعتبرة المندرجة ضمن مفهوم العلم بمعناه الدقيق الذي يرتبط عنده بمجموعة من القواعد المقررة التي يجمعها موضوع وغاية ومنهج كفيل بتطبيق تلك القواعد الكلية على جزئيات الموضوع.(56)     
ولا يخفى أن تأسيس علم خاص بالتصنيف يقتضي وجود مصنفات ومؤلفات كثيرة ومختلفة القضايا والموضوعات والاتجاهات، لأنه رهين بوجود تراكمات علمية ومعرفية وتجريبية تستغرق كافة مجالات النشاط الفكري والفلسفي والأدبي والفني والعلمي. ومن هنا يعد علم التصنيف نتيجة طبيعية لتواجد أنساق ونظريات علمية في مختلف مجالات النشاط العقلي بصفة عامة، مما يستدعي إحصاءها وحصرها أو لا، ثم التعريف بموضوعاتها ومناهجها وغاياتها، وكذا بيان مواقعها من حيث الأهمية والأولوية في سلسلة التصنيف، لأن العلوم، مع اشتراكها في الشرف تتفاوت أهمية وأفضلية بحسب موضوعاتها أو الغاية منها، أو بحسب درجة الحاجة إليها، وقد تتفاوت بالنظر إلى مدى وثاقة الحجج المستعملة فيها(57)وهكذا  تتعدد أوجه التفاوت بين أصناف العلوم لاعتبارات مختلفة ليس هنا مقام التفصيل فيها.
إن صفة العلم لا تتحقق في أي مجال من مجالات البحث والمعرفة إلا إذا بلغ ذلك المجال درجة كبيرة من الضبط والتقنين تسمح بوضع قوانينه ومقرراته موضع التطبيق العملي أو النظر العقلي، بمعنى أن أي فرع من فروع المعرفة النظرية أو العملية، لا يمكنه أن يدرج في بناء تصنيفي إلا إذا تم اكتشاف قوانينه وضبط جهازه الاصطلاحي الذي ييسر سبل الدقة في الوصف والتحليل.
ومعلوم أنه لا يتوصل إلى بناء القانون العلمي إلا بعد أن يمر العلم بسلسلة من الإنجازات والتجارب والتراكمات التي تسمح باستخلاص القوانين المتحكمة في نتائج هذا العلم أو ذاك، على أنه لا ينبغي أن يفهم من اصطلاح القانون، أن العلم يعترف بالقانون المطلق، لأن الحقائق العلمية، إنما ترتبط بظروفها التاريخية من حيث هي تعكس مستوى البحث والنظر في هذه المرحلة أو تلك، ولذلك فهي: "دائمة التطور والتغيير بحيث لا يمكن القول بوجود حقيقة نهائية غير قابلة للدحض أو التحوير أو الزيادة. فمحتوى أي علم من العلوم غير ثابت، لأن اليقين في العلم(58) يتخذ مفهوما خاصا، فهو ينبني على النسبية والقابلية للتصويب والتعديل، بل في أحيان كثيرة يخضع للانقلاب الجذري، أو ما يسمى بالثورات العلمية التي من شأنها أن تغير كلية من بعض الحقائق والمعطيات التي كان ينظر إليها في السابق على أنها حقائق علمية غير قابلة للطعن أو الدحض.(59)
ولما كانت العلوم كلها خاضعة لقوانين التطور، فإن الحديث عنها أو وصفها وضبطها في نسق تصنيفي معين خاضع بدوره لنفس القانون الذي من شأنه أن يصبغ أية محاولة تصنيفية بطوابع العصر العقلية واهتماماته العلمية وأطره النظرية وهذا ما يفسر تعدد وتنوع المحاولات التصنيفية العربية عبر العصور المتلاحقة. فهي محاولات متواصلة تكاد تستغرق أغلب مراحل التاريخ الإسلامي. وهنا تكمن أهمية تلك المؤلفات التي خصصها أصحابها لتصنيف العلوم، إذ أنها تمثل من وجوه كثيرة جانبا مهما من التاريخ الحضاري العام في جوانبه العقلية والعلمية، وبصفة خاصة ما يتصل منه بنظم التعليم، وأسس الثقافة، وطرق التربية. فهذا النوع من المؤلفات يعنى برصد حركة تطور العلوم والفنون مع بيان مصطلحاتها الأساسية. ولا يخفى أن تاريخ العلوم لا يكاد ينفصل عن العلم نفسه، بل إنه يشكل جزءا أساسيا منه، ذلك أن العلوم فيما يقرره عبد الله الدفاع: "تزداد واقعية وحيوية، وتتضح قيمتها بقدر أكبر متى درست من خلال تاريخها. فتاريخ العلوم هو في  الواقع الهيكل الرئيسي لتاريخ الحضارة".(60)
يربط أغلب مؤرخي الفكر والعلوم عند العرب المحاولات التصنيفية الأولى بما عرفته هذه الحضارة العربية منذ منتصف القرن الثاني الهجري من حركات علمية رائدة في مجالات علمية مختلفة نتجت عنها حركة التدوين الكبرى للعلوم العربية الإسلامية، فضلا عن بداية حركة نقل العلوم الأجنبية وترجمتها إلى العربية. ولكن الذي ينبغي التأكيد عليه أن بدايات النظر في مبادئ علم التصنيف وإجراءاته قد ترجع إلى ما قبل هذه المرحلة، لأن محاولة التمييز بين أنواع العلوم والمعارف العربية تعود إلى المراحل الأولى من التاريخ الإسلامي، حيث اقترنت تلك المحاولات ببدايات النظر في علوم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والشعر العربي وما يقترن به من لغة ونحو وصرف وبلاغة وعروض
لقد شهد المجتمع العربي بعد انقضاء العهد النبوي تطورات هائلة مست الحياة العربية في جميع نواحيها الاجتماعية والسياسية والفكرية والعلمية والتنظيمية، وقد استدعى ذلك التطور ظهور علوم جديدة مواكبة لمختلف المستجدات التي عرفها المجتمع الإسلامي، وهكذا ظهرت علوم الفقه والتفسير واللغة والبيان والحديث، والنحو والكلام والفلسفة والأصول، وحققت في مدة وجيزة من التطور والتبلور ما جعلها علوما وفنونا وصناعات لها مبادئها وقواعدها ومناهجها المستقلة،(61) ولها أعلامها الذين مثلوا مختلف اتجاهاتها وتياراتها مما خلفوه من أعمال علمية رائدة.
ولقد أفضى النظر في القرآن الكريم إلى وضع مجموعة من الضوابط المتعلقة بشروط التفسير ولوازمه، فحدد العلماء مجموعة من الشروط والمعارف الضرورية التي ينبغي التسلح بها قبل الدخول في مواجهة القرآن والنظر فيه.(62) وفي سياق التعامل مع القرآن الكريم، تعددت أنواع التفاسير واختلفت مصادر أصحابها وتنوعت طرقهم، فظهر ما يعرف بتفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالسنة أو بالرأي والاجتهاد، وهناك من اعتمد القراءات القرآنية، ومن اعتمد اللغة وإعراب القرآن وبيان معانيه، وبذلك ظهرت مدونات ورسائل كثيرة عكست ذلك التنوع والغنى والاختلاف في أوجه النظر إلى النص القرآني المعجز
وفي مجال الحديث النبوي، لم يقف الأمر عند مجرد نقله وروايته، وإنما اتسع مجاله ليشمل علم الرجال والرواة، فوضعت بفضل مجهودات أهله مقاييس علمية، وتعددت طرق توثيق النص الحديثي، ولكنها لم تنفك أبدا عن الارتباط بطرق تحمل الحديث وبأوجه روايته وضبطه متنا وسندا. وكان من نتائج ذلك ظهور علوم كثيرة متنوعة تتصل بالحديث من حيث متنه وسنده ورجاله ومصطلحه، فأصبح مجال الحديث النبوي علما قائما بذاته، وتم تصنيف الرواة إلى طبقات ومراتب بالنظر إلى درجاتهم في العدالة والضبط، كما تم التمييز في درجات الحديث من حيث الصحة والضعف والحسن، والشذوذ والعلةإلى غير ذلك من الاصطلاحات العلمية الدقيقة التي تحفل بها المؤلفات الحديثية المعروفة ككتب الصحاح، وكتب السنن والمساند والمستدركات(63) وبصفة عامة فقد أسفرت جهود علماء الحديث في توثيق النص الحديثي عن عدة علوم ومباحث، بفضل استقلال البحث وتعمقه في مختلف عناصر المتن، وضوابط السند وما تفرع عنهما من علوم فرعية أخرى تستمد أصولها المعرفية من طبيعة علم الحديث الذي عرف عندهم بأنه: "علم رواية ودراية". وعن هذين الأصلين تفرعت علوم كثيرة كعلم الجرح والتعديل، وعلم رجال الحديث، وعلم مختلف الحديث وعلم علل الحديث، وعلم غريب الحديث، وعلم ناسخ الحديث ومنسوخه إلى غير ذلك من العلوم الدقيقة التي تحفل بها المكتبة الحديثية الغنية بالمؤلفات والرسائل المتنوعة:(64) فعلى سبيل المثال كان الاهتمام بسند الحديث دافعا إلى العناية بما يعرف في الحضارة الإسلامية "بعلم الرجال" الذي تأسس، وتأصل، وتبلور في بيئة المحدثين، حتى صار علما قائما بذاته، له أعلامه ومصنفاته التي تعنى بالترجمة للشيوخ والتعريف بالعلماء الذين يتم النقل والرواية عنهم بالطرق المعروفة المضبوطة كالسماع، والقراءة والإجازة، والمناولة، والكتابة، والإخبار والحديث المباشر
ويمكن القول إن تلك المؤلفات التي تعرف بالشيوخ وبسيرهم تشكل حلقات أساسية من حلقات تأسيس العلوم العربية وتطورها، ولذلك فهي جزء من تاريخ العلوم نفسها، ولعله من أجل ذلك ذهب ابن خلدون إلى أنه "كان للسند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبرا عند كل أهل أفق وجيل".(65)ومن هنا فكتب التراجم والطبقات والأعلام والفنون تعد من أوائل المصنفات التي استقلت بموضوعها ومنهجها وأهدافها ضمن الإطار العام للثقافة العربية، فهي تجسد جوانب مهمة من تطور الفكر والمعرفة، كما تؤرخ لتطور البحث المعرفي من خلال الترجمة لرجاله والتعريف بمنجزاتهم في حقول تخصصاتهم.
ومن المفيد أن نشير في هذا المقام إلى أن الحضارة العربية الإسلامية تزخر بأنواع شتى من كتب التراجم والطبقات والأعلام والبلدان وهي تجسد بحق عناية هذه الحضارة بالعطاءات والمجهودات الفردية التي قام بها العلماء في كل جوانب الفكر والعلم والأدب والفنون، إذ لا نكاد نجد مجالا من المجالات العلمية المتعددة، إلا وقد ألفت فيه كتب مختلفة من التراجم والأخبار والوفيات والطبقات صحيح أن منطلق العناية بهذا النوع من المؤلفات كان هو الاهتمام بشخصية الرسول (ص) وسيرته وغزواته، ثم بأصحابه والتابعين ومن جاء بعدهم، ولكنه سرعان ما انتقلت هذه العناية إلى الكتابة عن العلماء والشيوخ في مختلف التخصصات والاتجاهات، وهكذا ظهرت تراجم وطبقات اللغويين والأدباء والقراء والنحاة والرواة والإخباريين والصوفية والحكماء والأطباء والفقهاء والمحدثين
وقد لا نبالغ حين نقول إن التصنيف في هذا المجال يعد من أبرز مميزات الحركة العلمية في الحضارة الإسلامية، إذ لا تخفى أهمية هذا النوع من المؤلفات في تزويد الباحث في تاريخ العلوم الإسلامية بكثير من المعطيات التي تعرف بمصادر العلماء وبأصول معارفهم، كما تسهم في الوقوف على نوعية الإضافات الخاصة وكذا أوجه الشبه والاختلاف التي واكبت تطور البحث والنظر في كل مجال من المجالات.ولقد اتسع التأليف في هذا المجال ليشمل كتب التعريف بالبلدان والأمصار والقبائل والحيوان والنبات فألفت الرسائل الصغيرة منذ مرحلة التدوين الأولى وبلغت درجات عالية من الدقة والضبط في المدونات الكبرى المتخصصة أو التي غلب عليها الطابع الموسوعي العام
وظهر إلى جانب هذا النوع من المؤلفات مجموعات متعددة من الرسائل اللغوية والمعجمات الخاصة والعامة التي تنصب حول موضوعات مختلفة تتصل بالحياة العربية، وبلغة العرب، وأسلوب القرآن والحديث،(66) إلى جانب مجموعة كبيرة من الداسات النقدية والتاريخية والأدبية حول الشعر العربي
إن تنوع هذه المصنفات وتعدد  اتجاهاتها وارتباطها بحقول معرفية متعددة ومترابطة في آن واحد، وكذا شمولها لمراحل تاريخية متعاقبة، إلى جانب خضوعها لألوان شتى من فنون التنظيم وأساليب الترتيب والتبويب، يجعل منها مصادر أساسية لا غنى عنها لمعرفة الأسس العلمية التي قامت عليها حركة تصنيف العلوم، وترتيب المعارف داخل بناءات هيكلية محددة. فلقد ساهمت تلك المؤلفات بتنوعها وتعددها في إرساء دعائم علم التصنيف عند العرب حين أمدت المصنفين بأساليب مختلفة في تنظيم المعارف العربية بحسب الموضوعات أو الرجال أو الفنون أو المصنفات
ويمكن القول بناء على ما سبق، إن النظر في الشعر العربي من حيث جمعه وتوثيقه وتدوينه، ودراسته لغويا ومعنويا وتاريخيا، كما أن النظر في اللغة بصفة عامة من حيث معجمها وصرفها ونحوها وبلاغتها، وكذا في القرآن الكريم قراءة وتفسيرا وإعرابا وتأويلا، وفي الحديث النبوي من حيث سنده ومتنه، بالإضافة إلى النظر في الفقه وأصوله، وفي علم الكلام ومباحثه كل ذلك يعد المنطلق الأساس الذي حفز العرب إلى العناية بالتأليف والتصنيف، وبصفة خاصة أن القرآن الكريم كان هو المحور الذي تدور عليه مختلف العلوم العربية والإسلامية،(67) ولقد عمد علماء التفسير إلى تقسيم علوم القرآن تقسيمات شتى حتى إن القاضي أبا بكر بن العربي أورد في قانون التأويل قوله: "إن علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع".(68)
وذهب ابن جرير الطبري (ت 310هـ) إلى أن القرآن الكريم يشتمل على ثلاثة علوم هي: التوحيد والأخبار والديانات. وذهب علي بن عيسى إلى أن القرآن يشتمل على ثلاثين علما. وقال السيوطي إن القرآن يشتمل على كل شيء، لأنه ما من مسألة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها.(69)
وفي سياق الحديث عن البدايات العربية الأولى لتصنيف العلوم يروى عن الإمام علي (ت 40هـ) (كرم الله وجهه) أنه قال: "العلوم خمسة: الفقه للأديان والطب للأبدان، والهندسة للبنيان، والنحو للسان والنجوم للزمان".(70)
كما يروى عن الإمام الشافعي أنه أحصى في أحد مجالس هارون الرشيد حوالي ثلاثة وستين علما إلى غير ذلك من الروايات التي تشير إلى البدايات الأولى للنظر العلمي المنظم في تصنيف العلوم، وتنظيم المعارف عند العرب. وقد اقترن هذا النظر بالمرحلة العباسية التي شهدت حركة نشيطة لنقل العلوم الأجنبية وترجمتها إلى اللسان العربي، وبصفة خاصة بعد تأسيس "دار الحكمة" التي سرعان ما تحولت إلى ما يشبه الأكاديميات الحديثة، حيث أصبحت بغداد مركزا علميا وفضاء واسعا لتلاقح ثقافي كان من نتائجه ازدهار العلوم وتطورها في المجتمع العربي، إذ ظهرت علوم طبية وطبيعية وتجريبية ورياضية وهندسية وفلكية جديدة، وبرع العرب في أكثرها كما يشهد بذلك إبداعهم المتميز فيها، ولم يكتفوا بمجرد النقل والترجمة، لعلوم اليونان والفرس والهند، وإنما أضافوا إلى النظريات القديمة كثيرا من البحوث والآراء والاجتهادات التي كان لها دور خطير في تطور العلوم المختلفة: في الطب والكيمياء والصوت والضوء والفيزياء والصيدلة والحساب والجبر والهيئة والموسيقى والنبات والحيوان والفلك(71) ولقد خطا العرب بالعلوم الطبيعية والتجريبية ـ على سبيل المثال ـ خطوات علمية هائلة تجاوزت الكثير من الملاحظات والأفكار التي ورثوها عن كتب الأقدمين من اليونان والهند والفرس، وهي ملاحظات كان يغلب عليها الطابع الخرافي أوالأسطوري. ولذلك يرى كثير من الباحثين ضرورة اعتبار العرب هم المؤسسين الحقيقيين للعلوم الطبيعية والتجريبية بمفهومها الحديث، لأنهم بنوها على التجربة التي جعلوها أساسا للوصول إلى الحقائق والنتائج العلمية. ومن ثم يعد المنهج التجريبي من أبرز الاكتشافات العلمية التي أبدعها العقل العربي: "إذ كان من الأسس التي ثبتها العلماء العرب رفض أي شيء باعتباره حقيقة ما لم تدعمه الملاحظة الدقيقة أو تثبته التجربة".(72)
لقد ازدهرت العلوم في الحضارة العباسية ازدهارا ملحوظا بفضل اكتشاف المنهج التجريبي الذي أصله العلماء المسلمون، ووضعوا قواعده وشروطه التي مكنتهم من التعمق والتدقيق في النتائج، بعيدا عن المناهج العقلية الاستنباطية المعتمدة عند اليونان وغيرهم، إذ اعتمد العرب المنهج الاستقرائي والتجريبي، حتى ليمكن القول، إن هذا المنهج مدين للعرب في ظهوره وتطوره، وتطبيقاته العملية، مما جعل ابن خلدون منذ القديم يتحدث عن "العقل التجريبي" ويجعله من خصائص الفكر العلمي في الحضارة العربية،(73) وهذه الحقيقة نفسها هي التي دفعت "برينولت" في كتابه الشهير: "تكوين الإنسانية" إلى القول بأن: "العلم هو أعظم ما قدمته الحضارة العربية إلى العالم الحديث عامة، وأن الادعاء بأن أوربا هي التي اكتشفت المنهج التجريبي ادعاء باطل وخال من الصحة جملة وتفصيلا، لأن الفكر الإسلامي هو الذي قال: "انظر وفكر، واعمل، وجرب حتى تصل إلى اليقين العلمي".(74)
ومعلوم أن الوصول إلى "اليقين العلمي" ! رهين باكتشاف قوانين الظواهر المدروسة، ولقد حقق علماء العرب في مجالات علمية متعددة تلك القوانين بدرجات عالية من الدقة والمنهجية كما تدل على ذلك مؤلفاتهم وآثارهم في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والتجريبية. ذلك أن العلماء المسلمين القدماء عرفوا مفهوم  القانون وتطبيقاته المختلفة، وليس أدل على ذلك من شيوع هذا المصطلح في مؤلفاتهم العلمية والنظرية، حتى إن ابن سينا (370هـ ـ 428هـ) يجعله عنوانا لأشهر كتبه في الطب، وقد تنبه ابن الأكفاني إلى ذلك، فنوه بالكتاب وبدلالة عنوانه، كما بين مفهوم القانون فقال: "وأما "القانون" للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا فهو الذي أخرج الطب من التلفيق إلى التهذيب والترتيب، وهو أجمع الكتب وأبلغها لفظا وأحسنها تصنيفا.
"وبالجملة فيحتوي على خلاصة كتب الأقدمين، وينفرد بالمباحث العلمية، والفوائد الحكمية، وبعض من لا تعمق له في النظر، توهم أن تسميته غير مناسبة، وأن الشيخ لو عكس التسمية بينه وبين "الشفاء" لكان أنسب وأصوب، وهذا لجهل هذا القائل بمعنى لفظ القانون، وذلك أن القوانين في كل علم أقاويل جامعة ينحصر في القليل منها الكثير من العلم: إما ليحاط بها ما هو من ذلك العلم فلا يدخل فيه غيره، ولا يشذ عنه ما هو منه، وإما ليمتحن بها ما لا يؤمن الغلط فيه، وإما ليسهل بها تعلم ما يحتوي عليه ذلك العلم.
" وكذلك القوانين في الصناعات العملية: إنما هي آلات كلية تعمل لامتحان ما لا يؤمن الغلط فيه كالشاقول، والبركار، والمسطرة، والموازين.
"والقدماء يسمون جوامع الحساب وجداول النجوم قوانين، إذ كانت أشياء قليلة تحصر أشياء كثيرة، وإذا علم هذا فما أجدر هذا الكتاب باسم القانون، لمجموع هذه الأمور فيه".(75)
وبصفة عامة فقد فهم العلماء العرب أهمية اكتشاف القوانين التي تتحكم في الظواهر والأشياء، لأنهم أدركوا أن تطور العلوم وتقدمها يرتبط عضويا بالعمل على ضبط قوانين الأشياء المدروسة، ولذلك فقد تم تداول هذا المصطلح بدلالته العلمية والإجرائية في بحوثهم ودراساتهم التي أجروها في الطب والصيدلة والهندسة والفلك والكيمياء والنبات والحيوان والصوت والضوء بل إن مفهوم القانون لم يكن عندهم مقصورا على التداول في مجال العلوم الحقة، وإنما نجدهم يستخدمونه في مجالات علوم اللغة والفقه والأصول وغيرها. ولقد سبق أن أوردنا نصوصا للفارابي يتحدث فيها عن القوانين في مجال علوم اللسان.
مبادئ عامة في علم التصنيف:  
أ ـ القسمة الثنائية:
 لعل من أبرز مبادئ التقسيم الأولى التي أرساها علماء التصنيف العرب، تلك القسمة الثنائية المشهورة التي تفصل بين العلوم العقلية والعلوم النقلية،(76) أو بين العلوم الشرعية والعلوم الحكمية (نسبة إلى الحكمة أي الفلسفة). ولقد تعددت المصطلحات الدالة على هذه القسمة لتشمل ـ على سبيل المثال ـ العلوم الشرعية في مقابل العلوم غير الشرعية عند الإمام الغزالي(77) أو علم الدين وعلم الدنيا عند جابر بن حيان،(78) أو العلو م الحكمية الفلسفية والعلوم النقلية الوضعية عند ابن خلدون(79) وحاجي خليفة(80)الذي استلهم كثيرا من تقسيمات ابن خلدون ومصطلحاته. وقد يقال علوم الشريعة في مقابل علوم العجم.(81)
ولقد ارتأى بعض العلماء تقسيم العلوم تقسيمات غير ثنائية كما هو معروف عند ابن جزي (693هـ ـ 741هـ) الذي جعل العلوم ثلاثة أنواع فقال: "وهي على الجملة ثلاثة أنواع: علوم شرعية، وعلوم هي آلات للشرعية، وعلوم ليست بشرعية ولا آلات للشرعية".(82)
ويلاحظ أن هذه القسمة الثنائية توجد عند علماء التصنيف ذوي النزعة الإسلامية غير التقليدية، وهي النزعة التي اتجه أصحابها إلى: "استجلاء خصائص العلوم في واقع البيئة الثقافية الإسلامية لتشتق  منها أسسا للتصنيف، تعود في طبيعتها إلى الأصول العقدية التي كانت البيئة الثقافية الإسلامية امتدادا لها، وبعدا من أبعادها".(83)وقد مثل هذه النزعة عدد كبير من العلماء الذين شغلوا بمسألة تصنيف العلوم في الثقافة العربية، ولعل من أبرز ما يميز هذا الاتجاه هو تحرر أصحابه من سيطرة روح التصنيف الأرسطية بطوابعها التجريدية التي تعكس في نهاية المطاف طبيعة الثقافة اليونانية. ويمكن أن نذكر من هؤلاء على سبيل المثال ابن النديم، صاحب الفهرست (ت 438هـ)، وابن حزم الظاهري (ت 456هـ) في رسالتيه: رسالة التوفيق، ورسالة في مراتب العلوم،(84)وكذلك ابن خلدون في مقدمته، وطاش كبرى زادة في مفتاح السعادة، وحاجي خليفة في كشف الظنون.
ولقد ترتب عن تلك القسمة الثنائية مجموعة من المواقف والآراء المتباينة حول طبيعة بعض العلوم التي صنفت إلى علوم مطلوبة محمودة، وعلوم مذمومة غير مرغوب فيها،(85) ولذلك فقد وجدت مؤلفات تنطلق من هذا التصور وتنظر إلى العلوم بصفة عامة من هذه الزاوية الأخلاقية المعيارية، التي وقف أصحابها موقفا رافضا لبعض العلوم الفلسفية والمنطقية.
وفي مقابل تلك القسمة الثنائية التي أشرنا إليها، هناك اتجاه تصنيفي نحا ممثلوه نحوا مخالفا لسابقيهم، إذ لا نعثر عندهم على ما يسمى بالعلوم الشرعية والعلوم الفلسفية، وإنما نجد تقسيمات متعددة في بناءاتها الهيكلية ومنطلقاتها التصورية. ويمثل هذا الاتجاه أصحاب النزعة الفلسفية في التفكير العربي من أمثال الفارابي وإخوان الصفا وابن سينا: فقد قسم الفارابي ـ مثلا ـ كتابه "إحصاء العلوم" إلى خمسة فصول جعل الفصل الأول لعلم السان وأجزائه، والثاني للمنطق وأجزائه، وخصص الثالث لعلوم التعاليم التي أدرج ضمنها علم العدد والهندسة، وعلم المناظر، وعلم النجوم التعليمي، وعلم الموسيقى، وعلم الأثقال، وعلم الحيل. كما جعل الفصل الرابع للعلم الطبيعي وأجزائه، والعلم الإلهي وأجزائه. وختم كتابه بالفصل الخامس الذي خصصه للعلم المدني ولعلم الفقه وعلم الكلام.
وبالنظر في إحصاء العلوم، يتبين خلوه من ذلك التصنيف الذي يجعل العلوم في قسمين منفصلين: قسم شرعي وقسم حكمي فلسفي. ونجد هذا المنطلق نفسه عند ابن سينا، الذي يقسم علوم الحكمة قسمين كبيرين:
الأول: خصصه لما يسميه بـ "العلوم النظرية المجردة" وتتضمن عنده ثلاثة أقسام:
ـ  العلم الأسفل، ويسميه "العلم الطبيعي".
ـ العلم الأوسط، ويسميه "العلم الرياضي".
ـ العلم الأعلى، ويسميه "العلم الإلهي".
الثاني: ويسميه "العلوم العملية" وجعلها في ثلاثة أقسام:
ـ علم الأخلاق.
ـ علم تدبير المنزل.
ـ علم السياسة المدنية.
ولقد دارت مناقشات كثيرة بين المفكرين العرب القدماء حول العلوم المحمودة والعلوم المذمومة !، وحول العلوم التي يجب تعاطيها، والعلوم التي لا ينبغي الاشتغال بها، وهي مناقشات تعكس عند التأمل، طبيعة التصورات والمنطلقات المرجعية التي تشكل الخلفية الثقافية/الفلسفية التي يستند إليها هذا المفكر أو ذاك. ويمكن الإشارة هنا إلى موقف متميز سجله ابن الأكفاني الذي ذهب إلى جعل كل العلوم، مهما يكن موضوعها، ومنهجها، وغايتها، صالحة مفيدة وغير ضارة، لأن العلم ـ أي علم ـ في ذاته غير ضار وغير مذموم، مع التنبيه إلى أنه يشير إلى ضرورة مراعاة شروط كل علم وحدوده. يقول: "اعلم أنه لا شيء ولا واحد من العلوم ـ من حيث هو علم ـ بضار، بل نافع، ولا شيء من الجهل ـ من حيث هو جهل ـ بنافع، بل ضار، لأنا سنبين في كل علم منفعة ما: في أمر المعاد، أو المعاش، أو الكمال الإنساني، وإنما توهم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع، لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء، فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه، ولكل علم ناموسا لا يخل".(86)
وإلى جانب ما سبق، فقد شغل علماء التصنيف وغيرهم من العلماء الذين خاضوا في ترتيب العلوم، بالحديث عن مناهج العلوم المختلفة، وطرق تحصيلها سواء منها العلوم العملية أو النظرية، فبينوا أصول كل علم وفروعه، وشغلوا ببيان مقدماته وأولياته ومبادئه الأساسية، وعلى الرغم من الاتفاق العام حول القسمة الثنائية كما تجسد ذلك أغلب المحاولات التصنيفية العربية، وبغض النظر عن تعدد التسميات أو العبارات الاصطلاحية الدالة عليها، فقد اختلف أيضا وبشكل كبير في تقرير الأسبقية والتفاضل بين العلوم التي تحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، فذهب أصحاب الاتجاه الفلسفي إلى أنها العلوم الفلسفية بأقسامها وفروعها، ولذلك جعلوها على رأس العلوم كلها ؛ وجعلوا البدء بها في تحصيل المعرفة أيسر وأسهل على المتعلم. ومن هذه الزاوية ذهب إخوان الصفا ـ على سبيل المثال ـ إلى تقسيم مجموع رسائلهم إلى اثنتين وخمسين رسالة ، بالإضافة إلى الرسالة الجامعة التي جعلوها خاتمة لكل رسائلهم. وجعلوا كل ذلك في أربعة أقسام:
ـ القسم الرياضي الفلسفي(87) وجعلوه في 14 رسالة (العدد، الهندسة، علم النجوم، الجغرافيا، الموسيقى، الصنائع العملية إلخ).
ـ القسم الثاني: القسم الجسماني الطبيعي(88)وجعلوه في 17 رسالة منها (الهيولى، والصورة، والحركة، والزمان، والمكان، السماء والعالم وإصلاح النفس، الكون والفساد، الآثار العلوية، ماهية المعادن، أجناس النبات
ـ القسم النفساني والعقلي: وجعلوه في 10 رسائل(89) في مبادئ الموجودات العقلية والروحانية، في العقل والمعقول، في الأدوار والأكوار، في ماهية العشق، في البعث والقيامة، في كمية أجناس الحركات، في العلل والمعلولات، في الحدود والرسوم
ـ القسم الناموسي الإلهي الشرعي:(90) وجعلوه في 11 رسالة منها: في الآراء والديانات، في ماهية الطريق إلى الله في ماهية الإيمان وخصال المؤمنين، في ماهية الناموس الإلهي وشرائط النبوة، إلخ
وقد جعل إخوان الصفا علم "العدد" من الرياضيات على رأس كل العلوم وفي مقدمة كل الرسائل، إذ جعلوه أصل العلوم، وعنصر الحكمة، ومبدأ المعارف. ومن تم فهو المدخل الأول الرئيس لكل العلوم، لأنه مركوز ـ في نظرهم ـ في كل نفس بالقوة، ومنه يؤخذ المثال على كل معلوم، يقول إخوان الصفا: "الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم. والعلوم الفلسفية أربعة أنواع فأول ما يبتدأ بالنظر فيه في هذه العلوم الفلسفية الرياضيات، وأول الرياضيات معرفة خواص العدد، لأنه أقرب العلوم تناولا، ثم الهندسة، ثم التأليف، ثم التنجيم، ثم المنطقيات، ثم الطبيعيات(91) وفي مكان آخر من الرسالة نفسها يقول الإخوان: "اعلم.. أنه لما كان من مذاهب إخواننا الكرام النظر في جميع علوم الموجودات التي في العالم احتجنا أن نقدم هذه الرسالة (في العدد) قبل رسائلنا كلها ونذكر فيها طرفا من علم العدد وخواصه التي تسمى "الأرثماطيقي" شبه المدخل والمقدمات، لكي يسهل الطريق على المتعلمين إلى طلب الحكمة التي تسمى الفلسفة، ويقرب تناولها للمبتدئين بالنظر في العلوم الرياضية".(92)
ويبدو أن مثل هذا الموقف الذي سطره إخوان الصفا ؛ هو الموقف الذي كان عاما وسائدا لدى فلاسفة الإسلام، الذين تقيلوا في كثير من تنظيراتهم الفلسفية ما سبق أن قرره أرسطو بصفة خاصة، ذلك أن الفارابي، وهو المعلم الثاني كما يقولون ! يذهب إلى نفس ما ذهب إليه إخوان الصفا، بل لعله كان أكثر انشغالا منهم بهذه القضية، وليس أدل على ذلك من أنه خصص لها مجموعة مهمة من مؤلفاته، كالمدينة الفاضلة، وكتاب "تحصيل السعادة"، وكتاب "التنبيه على سبيل السعادة"، وهي كلها تحاول تقديم أجوبة فلسفية عن السبيل الذي من شأنه أن يوصل الإنسان إلى السعادة الدنيوية والأخروية.(93)
ينطلق الفارابي من أن الوصول إلى السعادة القصوى ينبغي أن يمر بسلسلة من المراحل التي يحكمها ترتيب معين لأصناف العلوم التي ينبغي أن تواكب كل مرحلة من مراحل التحصيل والمعرفة. وهي عنده ـ كما عند إخوان الصفا ـ تبدأ بمعرفة الأعداد، ثم الأعظام (وهو علم التعاليم) فإنها أسهل على الإنسان، وأحرى أن لا تقع فيه حيرة واضطراب في الذهن، يقول الفارابي: "فيبتدئ أولا من الأعداد ثم يرتقي إلى الأعظام، ثم إلى سائر الأشياء التي تلحقها الأعداد والأعظام بالذات، مثل المناظر، والأعظام المتحركة التي هي الأجسام السماوية، ثم إلى الموسيقى، والأثقال، والحيل، فيكون قد ابتدأ مما قد يفهم ويتصور بلا مادة أصلا، ثم إلى ما من شأنه أن يحتاج في تفهمه وتصوره إلى مادة ما حاجة يسيرة جدا، ثم إلى ما الحاجة في تفهمه وتصوره، وفي أن يعقل إلى مادة ما حاجة أزيد قليلا".(94)
وفي الجانب المقابل للاتجاه الفلسفي، نجد أصحاب الاتجاهات الدينية على اختلافهم وتنوع منطلقاتهم الفكرية: فقد ذهب علماء الفقه والتفسير والأصول والتصوف والحديث.. إلى أن الطريق إلى تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة هو في الانطلاق من علوم الدين أي من العلوم الشرعية المعروفة،(95)ولكن أصحاب هذا الاتجاه يختلفون اختلافات كبيرة حول أسبقية بعض هذه العلوم على الأخرى، إذ أن منهم من يعطي الأفضلية للفقه، ومنهم من يعطي الصدارة لعلم الحديث، وهناك من يقدم التصوف، وهكذا ولقد سجل طاش كبرى زادة هذه المواقف في قوله: "إن العلوم التي يتوسل بها إلى السعادة الأبدية هي ما سأل عنه النبي جبريل (عليه السلام) وهي تتصل بأصول الدين المسمى بالكلام، وعلم الفقه وعلم التصوف الذي هو ثمرة الإيمان وثمرة الإسلام، ويدخل في كل ذلك علم التفسير وعلم الحديث".(96)

ب ـ تداخل العلوم وتكاملها:
لعل من أهم المبادئ التي أفرزتها حركة تصنيف العلوم عند العرب، الإقرار العام بمبدإ تداخل العلوم وارتباطها فيما بينها، إما في الموضوعات، وإما في طرق التحصيل وأوجه النظر المنهجية. ولقد تم الإلحاح في سياق ذلك على ضرورة الالتزام بنسق معين في الترتيب والترقي في التحصيل والتعلم، وذلك تحقيقا للبعد التربوي/التعليمي السليم في عملية التعلم والتعليم، وقد لخص طاش كبرى زادة هذا الموقف تلخيصا جيدا فقال: " ثم العلوم على تكثر درجاتها، إما موصلة للعبد إلى مولاه، أو معينة على أسباب السلوك، ولها منازل مترتبة في القرب والبعد من القصد، ولكل واحد رتبة ترتيبا ضرورية، يجب تنزيل كل  منها في رتبته، فينبغي أن يراعى الترتيب في تحصيلها، فيبتدئ بالأهم فالأهم، إذ البعض طريق إلى البعض، ومن وفق لرعاية ذلك الترتيب والتدرج فقد فاز فوزا عظيما".(97)
ومن هذا المنطلق، دعا إخوان الصفاء في مقدمة رسائلهم إلى ضرورة الالتزام بالترتيب الذي وضعوه لها، لأنه تصور يعكس في نظرهم الطريق السليم لتحصيل العلوم والمعارف بأيسر السبل، كما أنه ـ في تصورهم ـ ترتيب طبيعي ومنطقي، تفضي فيه الرسالة السابقة إلى اللاحقة. ومن هنا فقد طلبوا ممن وقعت بيده هذه الرسائل أن يتلطف ويعنى بها غاية العناية، وأن يستفرغ جهده في إيصالها لمن يرغب فيها، شيئا فشيئا، أي رسالة بعد رسالة، على الترتيب الذي بينوه وصرحوا به هم أنفسهم: "الواجب على من حصلت عنده هذه الرسائل وهذه الرسالة (الرسالة الجامعة) أن يتقي الله تعالى فيها بأن يهتم ويعتني بها غاية العناية ويتلطف في استعمالها وإيصالها شيئا بعد شيء لمن رآه شديد الحاجة إليه، عظيم الحرص عليه فمن أنس منه رشدا ورجا فيه خيرا دفعها إليه رسالة رسالة على الولاء شبيه الغذاء والتربية والنماء، وكالدواء للصحة والشفاء على الترتيب المبين في الفهرست".(98)
ولقد ترتب عن إقرار العلماء المسلمين بتداخل العلوم، القول بتكاملها المعرفي، وهذا مبدأ يفيد أن العلوم كلها ـ على اختلافها في ذاتها، وموضوعاتها، ومناهجها ومقاصدها المباشرة ـ مترابطة متعاونة. ذلك أنها تتصل وتتكامل فيما بينها على الرغم من التباعد الذي قد يظهر بين بعضها البعض. ولأن بعضها يفضي إلى الآخر، ولأن نتائج بعضها، يكون مقدمات لعلم أو لعلوم أخرى، ولأن موضوعاتها قد تشترك كليا أو جزئيا، فهي كلها ـ وإن اختلفت ـ متضافرة، وبعضها يكون وسيلة للآخر.(99)صحيح أنهم فرقوا ـ في الإطار العام ـ بين العلوم الشرعية والعلوم الأجنبية أو العقلية، ولكن ينبغي التنبيه إلى أن هذا التمييز اتخذ صبغة تصنيفية ذات طابع منهجي، يقوم على النظر إلى العلوم، باعتبار طبيعة موضوعها، أو مرجعيتها، أو أصولها المعرفية. على أنه ظل في أذهان العلماء، تقسيم تكامل وليس تقسيم تعارض أو تنافر. ومن هذا المنطلق نجد نصوصا كثيرة ؛ ومواقف متعددة تكرس مبدأ تكامل العلوم والمعارف مما يعكس تجذر هذا المبدإ واستقراره لدى علماء التصنيف المسلمين. ويمكن في هذا السياق أن نشير إلى بعضها: فمن ذلك ـ مثلا ـ ما ذهب إليه ابن حزم الظاهري (456هـ) من أن: "العلوم كلها متعلق بعضها ببعض محتاج بعضها إلى بعض ولا غرض لها إلا بمعرفة ما أدى إلى الفوز في الآخرة".(100) ولا تخفى أهمية إشارة ابن حزم إلى أن مبدأ التكامل والترابط بين العلوم نابع من حاجة بعض العلوم إلى البعض الآخر، من جهة توقفها على بعضها البعض، ويدخل في هذا الإطار ما يعرف بالعلوم المقصودة لذاتها، والعلوم المقصودة لغيرها: أي تلك التي تتخذ وسيلة لعلوم أخرى بحيث تكون معطياتها العلمية أو التصورية أسا من أسس البناء العلمي لعلوم أخرى.(101) وقد تتخذ هذه العلاقة بين العلوم، سلسلة من الترابطات العضوية التي تستغرق علوما كثيرة، يكون فيها اللاحق نتيجة طبيعية لسابقه، بل إن توسيع مدارك الإنسان يقترن بهذا الترابط والتكامل، ذلك أن إتقان علم من العلوم يساعد صاحبه على معرفة علم أو علوم أخرى، وبقدر إجادة الإنسان لعلوم معينة، تتوثق معرفته بالعلوم الأخرى وقد عبر ابن خلدون عن مظاهر الترابط والتداخل بين العلوم الشرعية ـ مثلا ـ تعبيرا دقيقا شاملا، وسنورده على طوله لأهميته في بيان ما نحن بصدده، يقول: "وأصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب والسنة التي هي مشروعة لنا من الله ورسوله، وما يتعلق بذلك من العلوم التي تهيئها للإفادة، ثم يستتبع ذلك علم اللسان العربي الذي هو لسان الملة وبه نزل القرآن. وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة، لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة بالنص، أو بالإجماع أو بالإلحاق. فلابد من النظر في الكتاب ببيان ألفاظه أولا، وهذا هو علم التفسير. ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي r الذي جاء به من عند الله واختلاف روايات القراء في قراءته، وهذا هو علم القراءات. ثم بإسناد السنة إلى صاحبها، والكلام في الرواة الناقلين لها ومعرفة أحوالهم وعدالتهم، ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، وهذه هي علوم الحديث، ثم لابد في استنباط هذه الأحكام من أصولها منوجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهذا هو أصول الفقه. وبعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، وهذا هو الفقه. ثم إن التكاليف منها بدني ومنها قلبي، وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد مما لا يعتقد، وهذه هي العقائد الإيمانية في الذات والصفات وأمور الحشر، والنعيم، والعذاب، والقدر، والحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو علم الكلام. ثم النظر في القرآن والحديث لابد أن تتقدمه العلوم اللسانية لأنه متوقف عليهما، وهي أصناف، فمنها علم اللغة وعلم النحو وعلم الأدب".(102)
فالعلوم على اختلاف وتنوع مجالاتها، وتعدد مناهجها، واختلاف أغراضها ومقاصدها الدينية والدنيوية، تتناسل فيما بينها لتشكل وحدة متآلفة يحتل كل علم فيها موقعه في سلسلة العلوم التي تشكل الهيكل التصنيفي الذي يراه هذا العالم أو ذاك،(103) بل إن تلك التفرقة المعروفة بين العلوم الشرعية والعلوم العقلية أو المقتبسة، قد تضمحل حدتها حين تصبح معرفة بعض العلوم الرياضية ـ مثلا ـ ضرورية لا غنى عنها لعلوم الشرع، التي تعتمد على نتائجها اعتمادا ظاهرا كما هو الشأن في علم الفرائض، الذي يحتاج صاحبه إلى معرفة الحساب، لتقدير أحكام المواريث، وتقرير حقوق الناس أصولا وفروعا. ومن هنا تحدث العلماء عن العلوم العددية وما تتفرع إليه من علوم كالحساب، والجبر، والمقابلة، والمعاملات التي تكون في البيوع والزكوات والمساحات وكل ما له علاقة بالمعاملات العددية. بل إن ابن خلدون يجعل (علم الفرائض) الذي هو من علوم الشريعة وتابع للفقه فيها، من العلوم الفرعية التابعة لعلم العدد، من جهة حاجة الفقيه الماسة إلى معرفة أصول صناعة الحساب من أجل تصحيح قسمة التركات وتعيين حقوق الورثة بحسب الأسهم المستحقة. يقول في سياق حديثه عن فروع علم العدد (من علم التعاليم): "ومن فروعه أيضا الفرائض، وهي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوارثات إذا تعددت وهلك بعض الوارثين، وانكسرت سهامه على ورثته، أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كله فيحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة من كم تصح، وسهام الورثة من كل بطن مصححا حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة، فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه، وكسره، وجذره ومعلومه ومجهوله، وترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية ومسائلها، فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه، وهو أحكام الوراثة من الفروض والعلول، والإقرار، والإنكار، والوصايا، والتدبير وغير ذلك من مسائلها، وعلى جزء من الحساب، وهو تصحيح السهامان باعتبار الحكم الفقهي".(104)
لقد كان الإقرار بمبدإ تداخل العلوم دافعا إلى التأكيد ـ بنسب وبدرجات متفاوتة ـ على ضرورة الشروع في أخذها وتحصيلها وفق منهج تربوي تعليمي يراعي البدء بالأهم منها فالأهم، شريطة إحكام ما بدئ به أولا قبل الانتقال إلى العلوم الأخرى، وشريطة عدم رفض أي علم من العلوم مهما يكن موضوعه صغيرا كان أم كبيرا، شريفا أم وضيعا.(105) وقد جسد أحمد بن مصطفى (طاش كبرى زادة) هذا الموقف تجسيدا واضحا حين طالب "ألا يدع المتعلم فنا من فنون العلم، ونوعا من أنواعه إلا وينظروا [كذا] فيه نظرا يطلع به على غايته ومقصده وطريقته فإن العلوم كلها متعاونة مترابطة بعضها ببعض، لكن عليك ألا ترغب في الآخر قبل أن تستحكم الأول، لئلا تصير مذبذبا فتحرم الكل ولا تكن ممن يميل إلى البعض ويعادي الباقي، لأن ذلك جهل عظيم وإياك ثم إياك أن تستهين بشيء من العلوم تقليدا مما سمعته من جهلة أسلافك من الطعن فيه، بل يجب أن تجعل لكل واحد حظه الذي يستحقه ومنزله الذي يستوجبه، فلا تكن من الذين يستهينون من العلوم ما جهلوا به مثل استهانتهم المنطق الذي هو أصل كل علم وتقويم كل ذهن".(106)
ومعنى ذلك أن على العالم في أي مجال من المجالات، ألا يحصر نفسه في إطار انشغاله العلمي الضيق، لأنه بذلك يعزل علمه، ومن ثم يحد من أفقه العلمي ويحول دون الاستفادة من نتائج العلوم الأخرى. صحيح أن التخصص الدقيق من شأنه أن يفضي إلى نتائج أكثر دقة ويقينية، ولكن ينبغي التذكير دائما بأن تطوير كثير من النظريات العلمية، وكذا الأفكار والمناهج، قد يكون نتيجة للاحتكاك والتواصل العلمي مع مجالات معرفية قد تبدو بعيدة عن مجال التخصص المعين، وهذا ما يعرف بهجرة المفاهيم العلمية ورحلتها من حقل معرفي لآخر. إذ يكون لتلاقح المعارف وتبادل النظريات نتائجه الإيجابية في تبلور العلوم وتطورها، وفي توسيع مجالات استخدام القواعد والمناهج العلمية التي تنتمي إلى تخصصات مختلفة، إذ يتم اقتناص بعض المفاهيم أو الإجراءات التحليلية التي أثبتت كفاءتها ونجاعتها في بعض المجالات العلمية، ليتم تداولها في مجالات علمية أخرى قد تكون بعيدة في موضوعها عن المجال العلمي الذي استمدت منه أولا، وفي هذا دليل على وحدة العلم(107) عبر مجالاته المختلفة. وللتمثيل على هذه الظاهرة نشير إلى أن اللسانيات الحديثة استمدت كثيرا من أصولها المعرفية وكذا بعض إجراءاتها المنهجية من مجالات بعيدة عن طبيعة مجال اشتغالها، إذ أخذت من الفيزياء والفلسفة والرياضيات كثيرا من المبادئ والأفكار التي ساهمت في تطور اللسانيات موضوعا ومنهجا وإجراء ومصطلحا.
وبصفة عامة فقد آمن علماء التصنيف العرب بتداخل العلوم واشتراكها في كثير من المعطيات والظواهر، بالإضافة إلى تآزرها وتعاضدها في تحقيق السعادة للإنسان، وإيمانا بمثل هذه المبادئ، فقد دعت جماعة إخوان الصفا إلى عدم معاداة أي علم من العلوم، وصرحوا في مناسبات كثيرة من رسائلهم بأن المذاهب الفلسفية كلها بما فيها الأعجمية، وكذا الآراء والأديان كلها، متساوية في المرتبة والمنزلة !! وأنه لا سبيل إلى المفاضلة بينها، ولذلك فهم ينصون على أن مذهبهم يستغرق المذاهب والعقائد والعلوم كلها.(108) ولعله من أجل ذلك انتقدهم أبو حيان التوحيدي انتقادات حادة، فاتهمهم بالتلفيق والحشو والاضطراب، ووصف فلسفتهم وعقائدهم بأنها مجرد خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات(109)
ج ـ أهمية الموضوع في العلوم:
ولقد ترتب عن الأخذ بتكامل العلوم وتضافر المعارف على اختلاف موضوعاتها ومناهجها، أن المصنفين العرب لم يتفقوا ـ كما سبقت الإشارة ـ حول عدد العلوم الأصول منها والفروع، فكان بعضهم ينتقد الآخر ويخطئه على توسيع دائرة، ومجال هذا العلم أو ذاك. وقد يؤاخذ بعضهم الآخر على حصر موضوع العلم في دائرة ضيقة،وقد تتجه المؤاخذة إلى عدد العلوم المتفرعة وأنواعها، وقد ينتقد بعضهم على إدماج بعض العلوم في بعضها الآخر، وقد يكون الخلاف بينهم حول مواقع بعض العلوم، من حيث أفضليتها أو تهميشها وتقليل دورها ضمن سلسلة العلوم المعتبرة أو الأساسية.(110) ولا يخفى أن مثل هذه الخلافات تعود إلى أسباب كثيرة ومتشعبة يطول الكلام بعرضها، وإن كان أغلبها يرجع إلى اختلاف تصورات العلماء حول مفهوم العلم وتحديد طبيعته وموضوعاته،(111) ذلك أن من الأسس المنهجية المعتبرة في تصنيف العلوم النظر إلى موضوعاتها ومجالات البحث والنظر فيها، ولذلك فقد تم تصنيف العلوم على أساس موضوعاتها الحسية أو العقلية. ومن هنا نشأ الخلاف بين علماء التصنيف حول مبدإ الانطلاق في سلم التحصيل العلمي، هل يكون من الحسي إلى العقلي أم من العقلي إلى الحسي ؟.(112)
ولقد شغل الحديث عن "موضوع العلم" حيزا كبيرا من اهتمام علماء التصنيف: ذلك أن العلوم، كما نص على ذلك كثيرا من العلماء العرب ـ ترتبط بوشائج كثيرة وتتصل اتصالات متشعبة ومتشابكة حتى ليصعب في أحيان كثيرة الفصل أو التمييز بين حدود هذا العلم أو ذاك، إذ يتعذر في حالات كثيرة تحديد بداية العلم ونهايته، بالنظر إلى موضوع اشتغاله، وقد عكست كثير من المحاولات التصنيفية العربية هذا التداخل، ونبهت إلى آثاره ونتائجه الابستمولوجية والمنهجية. ولحل هذا الإشكال الأساسي في العلوم، فقد تم التركيز أولا، على ضرورة تحديد دقيق لماهية الموضوع ودلالته الاصطلاحية، لأنه على أساس من ضبط هذه الماهية وتحديدها سوف يتم التعامل المنهجي مع كل العلوم بالنظر إلى أن كل علم، يشكل بمفرده ـ على الرغم من تداخلاته مع غيره من العلوم ـ نسقا مستقلا أو وحدة لها شخصيتها وطبيعتها المتميزة التي تسمح بعزلها ودراستها من جوانبها المختلفة بحيث تشكل فروع العلم المتعددة. وقد بلغت أهمية الموضوع درجة كبيرة من التقدير حتى صار التفاضل بين العلوم مبنيا على ما سموه بـ "شرف الموضوع". يقول الفارابي: "فضيلة العلوم والصناعات إنما تكون بإحدى ثلاث: إما بشرف الموضوع، وإما باستقصاء البراهين، وإما بعظم الجدوى الذي فيه سواء أكان منتظرا أو محتضرا".(113)
كما أن أهمية الموضوع تظهر بصفة خاصة حين يقترن مفهوم أي علم من العلوم بموضوعه الذي يحدد العلم نفسه، إذ لا يمكن تصور علم من العلوم بعيدا عن موضوعه، أي عن مجال تحققه نظريا كان أم عمليا. ولذلك نظر علماء العرب في سياق تعريفهم "للعلم" إلى الموضوع على أنه هو المحدد الرئيسي لماهية أي حقل علمي، إذ يجب التذكير هنا بما سبق أن أشرنا إليه، من أن العلم في أحد مفاهيمه هو تنظيم المعارف وتصنيفها على أسس إيضاحية، بمعنى أنه يتعين بموضوعاته التي تكون قد حددت وعرفت بدايتها ونهايتها، أي أنها تصنف بحسب موضوع البحث فيها. وقد تشترك بعض العلوم في الاشتغال على موضوع واحد، ولكن كل علم ينظر إليه من زاوية خاصة، ولأغراض ومقاصد خاصة، وبمناهج خاصة أيضا، فضلا عن أن الاشتراك في الموضوع لا يعني الاتفاق المطلق، ذلك أن لكل علم مفاهيمه وجهازه الاصطلاحي الخاص الذي يحدد بدقة ووضوح لغته الواصفة، بحيث لا تشترك مفاهيم الألفاظ المستعملة في هذا العلم مع مفاهيم نفس الألفاظ في العلم الآخر، ولا ننسى هنا أن هدف الخوارزمي من كتابه "مفاتيح العلوم" هو حل هذه المعضلة الاصطلاحية/الدلالية التي تعوق تحقيق أكبر قدر ممكن من التفاهم والتواصل بين العلماء عبر تخصصاتهم المختلفة، وبينهم وبين غيرهم ممن يستفيد من نتائجهم داخل المجتمع الذي تتداول فيه تلك المصطلحات والمفاهيم والعلوم.
يعرف ابن الأكفاني "الموضوع" في العلوم تعريفا دقيقا يقول فيه: "فالموضوع: هو الشيء الذي يبحث في ذلك العلم عن أحواله التي تعرض له: إما لذاته، أو لما يشتمل عليه، أو لما يساويه، ومتى كان الموضوع كليا فالعلم الناظر فيه أصلي، ومتى كان جزئيا، فالعلم الناظر فيه فرعي كالطب بالنسبة إلى العلم الطبيعي، فإن موضوع الطب بدن الإنسان من جهة ما يصح ويمرض، وهو مندرج تحت موضوع العلم الطبيعي، لأنه ينظر في الأجسام مطلقا ولواحقها".(114)
ولقد أدرك علماء التصنيف العرب أهمية تحديد موضوعات العلوم، ومن ثم طالبوا المربين والمعلمين وكل من لهم صلة بالعملية التعليمية والتربوية، أن يتنبهوا للوظيفة الحيوية المترتبة عن حصر موضوعات العلوم بدقة، إذ أنها تتمايز بموضوعاتها،(115) كما أن نسبة كل علم تابعة لموضوعه كما يصرح بذلك الفقيه اليوسي، مما يفيد أن تصنيف العلوم ينبني على أساس النظر إلى حدود وطبيعة موضوعاتها، ولذلك تجدهم يصدرون التعريف بالعلوم المختلفة بالحديث عن موضوعاتها الكلية أو الجزئية بحسب أصلية العلم أو فرعيته. وهكذا فأقسام العلم الرياضي مثلا تشترك في موضوع واحد يتفرع إلى أنواع كثيرة تشترك في التعاور على الموضوع نفسه، ولكن من زوايا مختلفة، مما يزكي ائتلاف العلوم واحتياج بعضها للآخر، بسبب هذا الاشتراك الذي يجمع بعضها في الموضوعات التي يبحث فيها.(116) ومن ثم يجعلها مندرجة عند التصنيف ضمن وحدة كبرى أو قسم خاص من أقسام العلوم، يقول أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي في هذا الشأن: "وأما العلم الرياضي: فهو العلم الباحث عما تجرد عن المادة في الذهن فقط وأنواعه أربعة، علم الهندسة، وعلم الهيئة، وعلم العدد، وعلم الموسيقى، وذلك أن نظره في الكم، وهو إما متصل بأن يفرض بين أجزائه حد مشترك تتلاقى عنده أولا، وكلاهما إما قار بالذات بأن يكون مجتمع الأجزاء في الوجود أولا".(117)
ويقول عن العلم الطبيعي والعلوم المتفرعة عنه: "وأما العلم الطبيعي: فهو العلم الباحث عن الجسم الطبيعي، أي المادي، وهو المحسوس من حيث هو معرض للتغير والانفعال والثبات في أحواله، وموضوعه الجسم من تلك الحيثية، وفائدته معرفة أحوال الأجسام البسيطة والمركبة من الأفلاك والعناصر المولدات… ويتفرع منه عشرة علوم، علم الطب، وعلم البيطرة، علم الفراسة الحكيمة، وعلم تعبير الرؤيا، وعلم الأحكام النجومية، وعلم السحر، وعلم الطلسمات، وعلم السيمياء، وعلم الكيمياء، وعلم الفلاحة".(118)
ولا يهمنا هنا أن نعرض للتفاصيل المختلفة بين العلماء حول العلوم الأصول وما يتفرع عنها من أنواع قد تتعدد وتتنوع من عالم لآخر، ومن مصنف لآخر. ولا يخفى أن كثرة التنويعات والتفريعات ترتبط بمدى تقدم العلوم واتجاهها إلى مجالات متخصصة دقيقة. وللوقوف على بعض مظاهر هذا الاختلاف الناتج عن تطور العلوم وتنوع فروعها، يمكن المقارنة ـ مثلا ـ بين أنواع العلم الطبيعي عند الفارابي وأنواعها(119) عند صاحب "مفتاح السعادة"، حيث تبلغ عند أحمد بن مصطفى، قدرا كبيرا من التنوع والتعدد الذي يعكس جانبا مهما مما وصلت إليه هذه العلوم من تطورات دفعت بها إلى كثرة الفروع، التي أصبحت بدورها متخصصة في مجالات محددة. ولذلك يتجه أحمد بن مصطفى إلى الحديث أولا عن مختلف فروع العلم الطبيعي في أصولها الكبرى،(120) ثم يعمد إلى بيان ما تنقسم إليه تلك العلوم من أنواع وفروع مختلفة، من خلال كل علم على حدة.(121)
ويمكن التمثيل لبعض ما سبقت الإشارة إليه عن طريق هتين الترسيمتين:
1) العلم الطبيعي وأقسامه عند الفارابي(122)(ت 339م):
أ ـ مجاله: يبحث في الأجسام الطبيعية وفي الأعراض التي قوامها في هذه الأجسام، كما يبحث في الأجسام الصناعية وفي أعراضها، وينقسم إلى 8 أجزاء عظمى: (123)

أجزاء العلم الطبيعي (8)
        1 ـ السماع الطبيعي: (وهو ما تشترك فيه الأجسام الطبيعية البسيطة والمركبة من المبادئ والأعراض.
        2 ـ السماء والعالم: (الأجسام البسيطة من حيث وجودها وعددها وأجزاؤها، وما تشترك فيه..
   
        3 ـ الكون والفساد: (يفحص كون الأجسام وفسادها).
        4 ـ الآثار العلوية: (يفحص مبادئ الأعراض والانفعالات التي تخص الاسطقسات دون المركبة).
        5 ـ النظر في الأجسام المركبة من العناصر..
        6 ـ النظر في المعادن
        7 ـ النبات وأنواعه.
        8 ـ الحيوان وأنواعه.
2) أقسام العلم الطبيعي عند طاش كبرى زادة (ت 968هـ):
يشغل هذا العم الشعبة الثالثة، ضمن الدوحة الرابعة، التي جعلها للعلم المتعلق بالأعيان: ذلك أن أقسام العلوم عنده تنتهي إلى سبعة، يسمي كل واحد منها دوحة، وتقسم الدوحة عنده إلى شعب مختلفة تمثل فروع العلم المعين،(124) كما تقسم الشعبة إلى "عناقيد". وهي عبارة عن المباحث المختلفة التي يبحث فيها هذا العلم أو ذلك. ويمكن بيان ذلك على النحو التالي :(125)
                       


1 ـ علم الطب
                         2 ـ علم البيطرة
                         3 ـ علم البيزرة
                         4 ـ علم النبات
                         5 ـ علم الحيوان
                         6 ـ علم الفلاحة
                         7 ـ علم المعادن
                         8 ـ علم الجواهر
فروع                   9 ـ علم الكون والفساد
       العلم الطبيعي         10 ـ علم قوس قزح
          (17 فرعا)           11 ـ علم الفراسة
                                     12 ـ علم تعبير الرؤيا
                         13 ـ علم أحكام النجوم
                         14 ـ علم السحر
                         15 ـ علم الطلسمات
                         16 ـ علم السيمياء
                         17 ـ علم الكيمياء
ولتمثيل الكيفية التي تتفرع إليها الشعبة من عناقيد، نأخذ هنا علم الطب الذي يحتل في تصنيف أحمد بن مصطفى العنقود الأول من عناقيد الشعبة الخامسة، حيث سنلاحظ بوضوح اتجاه هذا العلم، إلى التدقيق والتخصص في فروع متعددة، تعكس في حقيقة الأمر اتساع مجالات هذا العلم وتوزعها لتشمل تفريعات جديدة لم تكن موجودة في التصنيفات القديمة:
العنقود الأول: في فروع علم الطب(126)

                                     1 ـ علم التشريح
                                     2 ـ علم الكحالة
                                     3 ـ علم الأطعمة والمزورات
                                     4 ـ علم الصيدلة
                                     5 ـ علم طبخ الأشربة والمعاجين
   فروع علم الطب             6 ـ علم قلع الآثار من الثياب
          (12)                      7 ـ علم تركيب أنواع المداد
                                     8 ـ علم الجراحة
                                     9 ـ علم الفصد
                                     10 ـ علم الحجامة
                                  11 ـ علم المقادير والأوزان المستعملة في علم الطب
                                     12 ـ علم الباه
وبصفة عامة، فقد استأثرت قضية موضوعات العلوم باهتمام المصنفين العرب منذ القديم، ويمكن القول، إن الأساس الذي بنيت عليه كل التصنيفات العربية، هو الأساس الموضوعي (نسبة إلى الموضوع) على الرغم من الاختلافات التي قد تبدو بينها من حيث درجة التركيز على هذا الأساس، الذي أصبح موجها رئيسيا لبعض العلماء، وليس أدل على ذلك من أن أحمد بن مصطفى (طاش كبرى زادة) بنى كتابه "مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم" على هذا الأساس. ولا تخفى أهمية هذا الكتاب الكبرى، إذ يعد عند أغلب الدارسين أكبر موسوعة علمية عربية في تصنيف العلوم.(127)
لقد شكلت العناية بموضوعات العلوم إحدى السمات المنهجية الكبرى في تاريخ التصنيف والبحث عند العرب، وآية ذلك أنك لا تجدهم يغفلون، حين تعرضهم لأي علم من العلوم، عن الإشارة إليه باعتباره مناط العلم ومحددا لمنافعه وغاياته، بل محددا لماهيته ومجاله ووسائل العمل فيه، ومن هنا تعرف العلوم باعتبار موضوعاتها كما يقول حاجي خليفة.(128) ولذلك نجد المفكر المغربي أبا الحسن اليوسي، في سياق حديثه عن أهمية الموضوع في تحديد العلم وضبط مجال اشتغاله ينص على أنه سيعيد تقسيم العلوم باعتبار مناطاتها وموضوعاتها، يقول: "وقد رأينا أن نعيد التقسيم باعتبار المناط "وقد علم أن تمايز العلوم إنما هو بتمايز موضوعاتها".(129)
ولقد ترتب عن الإقرار بأهمية الموضوع في تحديد العلوم، والتمييز بينها، التأكيد على استقلال كل علم بموضوعه الخاص، وضرورة المحافظة على مجاله الخاص، على الرغم من اشتراك العلوم في بعض الموضوعات العامة، مما يعني أن الاشتراك في الموضوع ينتج عنه وجود علاقات عموم وخصوص بين هذه العلوم، بحيث إن موضوع علم معين يمكن أن يكون هو نفسه موضوع علم آخر، شريطة أن يكون كل منهما مقيدا بقيد لا يشتركان فيه، لأن هذا القيد الخاص هو الذي يحدد بدقة موضوع هذا العلم أو ذاك، ومن ثم طالب علماء التصنيف ممن يروم تحصيل العلوم، عدم الخلط في التحصيل والتعلم، لما في ذلك من التشويش، والاضطراب وضياع للوقت، مع الإخلال بالمقصود من التعلم، وهو إتقان علم معين أو مجموعة محددة من العلوم، وفي ذلك يقول بدر الدين بن جماعة (ت 733هـ) موجها خطابه للمتعلم في بداية أمره: " أن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقا في العقليات والسمعيات، فإنه يحير الذهن، ويدهش العقل، بل يتقن أولا كتابا واحدا في فن واحد، أو كتبا في فنون إن كان يحتمل ذلك على طريقة واحدة يرتضيها له شيخه
"وكذلك يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات، فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه، بل يعطي الكتاب الذي يقرأه، أو الفن الذي يأخذه كلية حتى يتقنه، وكذلك يحذر التنقل من كتاب إلى آخر من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الإفلاح".(130)
وفي هذا السياق نفسه ينبه ابن الأكفاني المتعلم إلى أن عليه: "أن يعلم أن لكل علم حدا لا يتعداه، فلا يتجاوز ذلك الحد
[و] أن لا يدخل علما في علم، لا في تعليم ولا مناظرة، فإن ذلك مشوش(131) كما يشير الفقيه اليوسي إلى أن العلوم متداخلة، وأن بعضها مرتبط ببعض، وأن على من أعطي قوة الإدراك، أن يكون مشاركا في فنون العلم، لأن من لم يشارك فيها، لم يكمل في واحد منها، مما يفيد أن إتقان علم معين يقتضي معرفة بعض أصول العلوم الأخرى، وبخاصة تلك التي لها علاقات مشتركة: "إذ ليس أحد يكمل في شيء على ما ينبغي، وهو جاهل بالبواقي، ولا سيما العلوم الشرعية، وهي المقصودة".(132)
ولقد جمع صاحب كشف الظنون ؛ خلاصة الموقف العام من قضية تقسيم العلوم بالنظر إلى الفروق الدقيقة بين موضوعاتها، إذ تنبه إلى أن التشارك في الموضوع، لا يمنع من النظر إليه من زوايا متعددة تشكل هي نفسها، موضوعات مستقلة لعلوم متميزة بمباحثها ومقاصدها الخاصة، حتى إنه ليمكن أن تصبح مسائل هذا العلم أو ذاك موضوعات لعلوم قائمة الذات، وهكذا تتفرع أمهات العلوم إلى علوم فرعية جزئية، تتخذ لها موضوعا ومنهجا وغاية، لا تشترك فيها مع العلوم الفرعية الأخرى، التي تكون قد انحدرت من الموضوع نفسه. وحين التأمل في هذه المسألة يلاحظ أنها تكون نتيجة للتطورات الطبيعية التي تحققها العلوم بفضل مختلف الإنجازات العلمية، التي تدفع بالعلماء إلى مزيد من التخصصات الدقيقة ؛ يقول حاجي خليفة: "لما كانت الحقائق وأحوالها متكثرة متنوعة تصدى الأوائل لضبطها وتسهيل تعليمها، فأفردوا الأحوال الذاتية المتعلقة بشيء واحد، أو بأشياء متناسبة، ودونوها على حدة، وعدوها علما واحدا، وسموا ذلك الشيء أو الأشياء موضوعا لذلك العلم، لأن موضوعات مسائله راجعة إليه، فموضوع العلم ما ينحل إليه موضوعات مسائله، وهو المراد بقولهم في تعريفه بما يبحث فيه علما منفردا ممتازا بنفسه عن طائفة متشاركة في موضوع آخر، فتمايزت العلوم في أنفسها بموضوعاتها فلا مانع عقلا من أن يعد كل مسألة علما برأسه ويفرد بالتعليم والتدوين، ولا من أن يعد مسائل متكثرة غير متشاركة في الموضوع علما واحدا يفرد بالتدوين، وإن تشاركت من وجه آخر ككونها متشاركة في أنها أحكام بأمور على أخرى، فعلم أن حقيقة كل علم مدون المسائل المتشاركة في موضوع واحد، وأن لكل علم موضوعا وغاية كل منهما جهة واحدة تضبط تلك المسائل المتكثرة وتعد باعتبارها علما واحدا".(133)
وإذا كان علماء التصنيف العرب قد اتفقوا على أن العلم حين يطلق، فإنما يقصد به مجموعة من القواعد المقررة التي يجمعها موضوع وغاية ومنهج،(134) بالإضافة إلى كونه مدونا في كتب ومصنفات، فإنهم نبهوا إلى أن هناك صنفين من أنواع العلوم هما: الأول: علم اكتسابي صناعي، والثاني: وجداني خيالي، ويندرج ضمن النوع الأول كثير من العلوم الطبيعية، والرياضية، كالطب، والصيدلة، والكيمياء والهندسة والبيطرة والفلاحة إلخ وهذه عندهم هي العلوم الحقيقية لأنها خاضعة للتجربة الحسية، كما أن موضوعاتها محددة بدقة. وأما النوع الثاني: فقد أطلقوا عليه اصطلاح العلم القياسي، ليكون مقابلا للعلم التجريبي، وأدرجوا ضمنه كثيرا من "العلوم" التي تكون بالإرادة والبحث وإعمال الفكر والوجدان.(135) ومن هذا النوع الثاني أشاروا إلى "علم الفراسة"، وقد عرفه ابن الأكفاني بأنه: "علم يتعرف منه أخلاق الإنسان من هيأته ومزاجه وتوابعه وحاصله: أنه الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن"،(136) ثم يشير إلى طبيعة هذا العلم الحدسية فيقول: "ويقرب من هذا العلم قيافة الأثر وقيافة البشر، وليست علوما اكتسابية، إنما هي تخمينات حدسية، وكذلك النظر في غضون الأكف وأسارير الجبهة ونحوها".(137)
كما أشاروا أيضا إلى علم تعبير الرؤيا، وعلم الطلسمات، وعلم السيمياء، وعلم السحر وهي كلها أمور وجدانية تعتبر فيها طرق خاصة: "لا سبيل إلى ترجيح بعضها على بعض بالنظر، بل ولا إثبات شيء منها ولا نفيه، لأنها أمور وجدانية، ولكن حيث وجدت القدرة فثم القادر، والعيان شاهد لنفسه، والخبر لذاته، لا يترجح أحد طرفيه".(138)
وبصفة عامة، فقد أدرك علماء التصنيف العرب أن العلوم كلها قابلة للتصنيف بما فيها تلك التي لا تندرج ضمن العلوم الحقيقية، لأنها وإن كانت غير خاضعة لقوانين التجريب العلمي، فإنها تشترك جميعا في كونها ذات موضوع ومبادئ، ومسائل، وغاية".(139) بالإضافة إلى أن العلماء وضعوا فيها كتبا مدونة ضمنوها معطيات العلم ومبادئه طبقا للمبادئ العامة التي وضعوها لتأليف الكتب في أصناف العلوم المختلفة.(140)  وهو ما اصطلحوا عليه بالرؤوس الثمانية التي تفيد في تقديم مجموعة من المعطيات العلمية المتصلة بموضوع العلم المراد التأليف فيه. وتكون لهذه الرؤوس أو المبادئ وظائف تعليمية وتربوية تنبني على إرشاد القارئ وتبصره بما لابد من معرفته قبل الشروع في تحصيل مسائل العلم ومشكلاته يقول ابن الأكفاني في سياق حديثه عن طرق التعليم والتعلم: "ورتبوا في صدر كل كتاب تراجم تعرب عنها سموها الرؤوس وهي ثمانية: الغرض، والمنفعة، والسمة، والواضع ونوع العلم، ومرتبة ذلك الكتاب، وترتيبه، ونحو التعليم المستعمل فيه".(141) ولذلك فقد ألغيت بعض العلوم ولم تدرج ضمن العلوم المصنفة، لأنه لم تدون فيها مؤلفات تبين موضوعاتها ومسائلها وغاياتها وطرق تحصيلها، وقد أشار (طاش كبرى زادة) إلى ما سماه بـ "علم الوضع"،(142) فجعله علما في طور التكوين والنشأة لم تدون فيه بعد مؤلفات تعرف به فقال: "وهذا علم نافع في الغاية، إلا أنه لم يدون بعد وهو يبحث في تغير الوضع وتقسيمه إلى الشخصي والنوعي والعام والخاص".(143)                                                                          




الهوامش :

 ([1]) فرانز روزنتال: علم التاريخ عند المسلمين، ترجمة صالح أحمد العلي، بغداد، مكتبة المثنى، 1963، ص 47-48.
(2) انظر تفصيل ذلك في مقدمة تحقيق كتاب: "مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم"، لأحمد بن مصطفى (طاش كبرى زادة) ج. 1/47-49، دار الكتب الحديثة، القاهرة، د.ت. وانظر أيضا عبد المجيد النجار: مباحث في منهجية الفكر الإسلامي، صص 34-36، ط. 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1992.
(3) حققه وقدمه وعلق عليه: عثمان أمين، ونشرته مكتبة الأنجلو المصرية، ط. 3، القاهرة، 1968.
(4) مباحث في منهجية الفكر الإسلامي، ص 39.
(5) عبد الأمير الأعسم: المصطلح الفلسفي عند العرب، صص 14-41، ط. 2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1979.
(6) محمد محمد قاسم: المدخل إلى فلسفة العلوم، ص 33 وما بعدها، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996، وجدير بالذكر أنه ليس هذه هي فقط وظيفة الفلسفة.
(7) ابن منظور: لسان العرب، مادة (صنف)، (نشرته دار المعارف بالقاهرة)، ج. 4/2511.
(8) الزمخشري: أساس البلاغة (صنف)، ص 260، حققه عبد الرحيم محمود، القاهرة، 1953.
(9) تكملة المعاجم العربية، ج. 6/476، ترجمة: محمد سليم النعيمي، مراجعة: جمال الخياط، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، 1982.
(10) ارنست ماير: هذا هو علم البيولوجيا دراسة في ماهية الحياة والأحياء، ص 142، ترجمة عفيفي محمود عفيفي، سلسلة عالم المعرفة، عدد 277، يناير 2002، الكويت.
(11) المرجع السابق، ص 143.
(12) نفسه، ص 42.
(13) انظر مقدمة تحقيق كتاب: مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، لأحمد ابن مصطفى (طاش كبرى زادة)، ج. 1/43-44، نشرته دار الكتب الحديثة، القاهرة، وراجع: جلال محمد موسى: تصنيف العلوم عند العلماء المسلمين، مجلة المسلم المعاصر، العدد 41، السنة 11، المحرم-صفر-ربيع الأول 1405هـ، ص 11.
(14) هذا هو علم البيولوجيا: ص 143، (مرجع سابق).
(15) زكي نجيب محمود: جابر بن حيان، ص 87-88، وزارة الثقافة والإرشاد القومي/المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، ونشرته مكتبة مصر، ضمن (سلسلة أعلام العرب)، القاهرة، 1961.
(16) راجع: عبد المجيد النجار: مباحث في منهجية الفكر الإسلامي، صص 33-34.
(17) المرجع السابق، ص 34.
(18) أحمد فؤاد باشا: ابستمولوجيا العلم ومنهجيته في التراث الإسلامي، مجلة: منبر الحوار، ع. 16، السنة: 4، شتاء 1989-1990م/1410هـ، ص 15. ولمزيد من التوسع في ذلك راجع ابن خلدون: المقدمة، 3/1022 وما بعدها. ومما جاء في ذلك قوله في فصل: (إن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران): "وقد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة، لما كثر عمرانها صدر الإسلام، واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم، واستنباط المسائل والفنون حتى أربوا على المتقدمين وفاتوا المتأخرين، ولما تناقص عمرانها وابذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام". المقدمة: 3/1024-1025، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، ط. دار نهضة مصر، القاهرة.
(19) هناك دراسات علمية كثيرة حاولت دراسة قضية العلوم في الحضارة الإسلامية، انظر على سبيل المثال: حكمت نجيب عبد الرحمن: دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، جلال موسى: منهج البحث العلمي عند العرب، عبد الرحمن بدوي: دور العرب في تكوين الفكر الأوربي، جلال مظهر: أثر العرب في الحضارة العربية، أنور الرفاعي: تاريخ العلوم في الإسلام، قدري طوقان: العلوم عند العرب، عمر فروخ: تاريخ العلوم عند العرب، غوستاف لوبون: حضارة العرب، كرلونللينو: علم الفلك تاريخه عند العرب في العصور الوسطى، علي عبد الله الدفاع: العلوم البحتة في الحضارة العربية الإسلامية 
(20) للتوسع في هذه المسألة راجع: عبد السلام المسدي: قاموس اللسانيات، محمود فهمي حجازي: الأسس اللغوية لعلم المصطلح، 7-34، محمد حسن عبد العزيز: المصطلح العلمي عند العرب، تاريخه ومصادره ونظريته، ص 176 وما بعدها.
(21) يقول أحمد فؤاد باشا: "فقد وصف كوندياك العلم بأنه "لغة أحسن إعدادها، وفي مقابل ذلك رأى بول موي أن اكتمال اللغة يؤدي إلى بدء المعرفة، كما يؤدي وضع المصطلح على أسس عقلية إلى البدء في معرفة الأشياء"، منبر الحوار، ع. 16، س. 1989-1990، ص 15، (مرجع سابق).
(22) الخوارزمي: مفاتيح العلوم، ص 2، ط. 2، منشورات مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1981.
(23) مفاتيح العلوم، ص 4.
(24) للتوسع في اتجاهات تصنيف العلوم في الفكر الإسلامي، راجع: عبد المجيد النجار: مباحث في منهجية الفكر الإسلامي، صص 33-78. ومقدمة تحقيق (كتاب مفتاح السعادة)، ج. 1/45-75.
(25) راجع بصفة خاصة الرسالة السابقة من رسائلهم ضمن الجزء الأول، ص 266 وما بعدها، قدم لها بطرس البستاني، ونشرتها دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1983.
(26) راجع: إحصاء العلوم، ص 125 وما بعدها.
(27) يقول الفارابي: "وصناعة الفقه هي التي يقتدر بها الإنسان على أن يستنبط تقدير شيء مما لم يصرح واضع الشريعة بتحديده عن الأشياء التي صرح فيها بالتحديد والتقدير وأن يتحرى تصحيح ذلك على حسب غرض واضع الشريعة بالملة التي شرعها في الأمة التي لها شرع، وكل ملة ففيها آراء وأفعال"، إحصاء العلوم، ص 130-131.
(28) مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، ج. 1/300، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
(29) مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، ج. 1/324، تحقيق كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
(30) راجع مقدمة تحقيق مفتاح السعادة، ج. 1/64، إدريس نقوري: مدخل إلى علم الاصطلاح، ص 66، جلال موسى: تصنيف العلوم عند العلماء المسلمين ؛ "مجلة المسلم المعاصر"، السنة: 11، العدد 41، ربيع الأول 1405هـ/ديسمبر 1985م، صص 24-26.
(31) تقديم ومراجعة محمد عوامة، اعتناء وضبط حسين عجمي، نشرته، دار القبلة للثقافة الإسلامية، ط. 1، جدة، المملكة العربية السعودية، 1994.
(32) يقول ابن الأكفاني في إرشاد القاصد، ص 46: "ونحن في هذه الرسالة نذكر موضوعات العلوم الكلية، لأن العلوم إنما تتمايز بموضوعاتها ويستغنى بذكرها عن الموضوعات الجزئية".
(33) إرشاد القاصد: 34-35، وتجدر الإشارة إلى أن حاجي خليفة قد نقل هذا الكلام نقلا في كشف الظنون، انظر الجزء الأول، ص 35.
(34) إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 34-35.
(35) أحمد فؤاد باشا: ابستمولوجيا العلم ومنهجيته في التراث الإسلامي، ص 6، (مرجع سابق).
(36) الغزالي: إحياء العلوم، 1/27، 33 وجابر بن حيان: رسالته في الحدود، ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب، ص 169، وانظر أيضا ابن سينا: رسالة في أقسام العلوم العقلية، ص 266.
(37) رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، ج. 1/21، ويكتفون أحيانا بصيغة "التقسيم"، انظر رسائل إخوان الصفا، ج. 1/408، 429.
(38) السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج. 1/7.
(39) جابر بن حيان: رسالته في الحدود ضمن المصطلح الفلسفي عند العرب، ص 164.
(40) أبو عبد الله محمد بن ساعد الأنصاري المعروف بابن الأكفاني في: إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 21.
(41) انظر كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور: مقدمة تحقيق كتاب مفتاح السعادة، ج. 1/38-39، وعبد النجار: مباحث في منهجية الفكر الإسلامي، ص 37-38.
(42) إحصاء العلوم، ص 53، حققه وقدم له وعلق عليه، عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، ط. 3، القاهرة، 1968.
(43) انظر تفصيل ذلك في مقدمة تحقيق (إحصاء العلوم)، ص 15-16.
(44) إحصاء العلوم (مقدمة التحقيق)، ص 14-15.
(45) مقدمة مفتاح السعادة، ص 53.
(46) انظر إحصاء العلوم، ص 124-138.
(47) انظر إحصاء العلوم، ص 65.
(48) انظر: إحصاء العلوم، ص 57.
(49) إحصاء العلوم، ص 57.
(50) نفسه، ص 58-59.
(51) نفسه، ص 64.
(52) إحصاء العلوم: 53-54 وقد نقل ابن الأكفاني (ت 749هـ) هذا الكلام نقلا، انظر: إرشاد القاصد، ص 22، وص 34-36.
(53) انظر مفتاح السعادة، ج. 1/3، إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 32 وما بعدها، مقدمة ابن خلدون، ج. 3/1240-1254 والقانون في أحكام العلم وأحكام المتعلم لأبي علي اليوسي، ص 278.
(54) يقول طاش كبرى زادة في مفتاح السعادة، ج. 1/3 : "إن الفنون كثيرة وتحصيل كلها بل جلها يسيرة مع أن مدة اعمر قصيرة وتحصيل آلات التحصيل عسيرة، فكيف الطريق إلى الخلاص من هذا المضيق ؟ فتأمل فيها قدمت إليك من العلوم اسما ورسما وموضوعات ونفعا وفيما اخترعت من التفصيل في طريق التحصيل".
(55) حسين حمادة: تاريخ العلوم عند العرب، 17-18، والقانون لليوسي، 323.
(56) انظر تفصيل ذلك في: القانون في أحكام العلم، للفقيه أبي علي اليوسي، ص 145، وقد أشار ابن خلدون إلى بعض ذلك في سياق حديثه عن علم الطب: "وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولأعلى موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره". المقدمة، 3/1143-1144.
(57) إرشاد القاصد، 27-28، كشف الظنون، ج. 1/18-23، والقانون لليوسي، ص 181.
(58) تقول يمنى طريف الخولي: "فيقين العلم ليس اليقين المطلق في أية نتيجة معينة أو قضية مادية، بل اليقين في أن كل خطوة غير دقيقة أو خاطئة يمكن تصويبها بالاعتماد على نتائج متوشجة في نسق العلم ذاته"، العلم والاغتراب والحرية، ص 415.
(59) للتوسع في هذه المسألة يراجع: صلاح قنصوة: فلسفة العلم، زكي نجيب محمود: أسس التفكير العلمي، محمد سبيلا: المعرفة العلمية ـ فؤاد زكريا: التفكير العلمي ـ سالم يفوت: كيف يؤرخ للعلم ـ جورج سارتون: تاريخ العلم ـ محمد فرحات عمر : طبيعة القانون العلمي. يمنى طريف الخولي: فلسفة كارل بوبرر: منهج العلم منطق العلم، وبصفة خاصة الباب الثالث من الكتاب بفصوله الخمسة، وبنية الثورات العلمية لتوماس كون ـ ماهر عبد القادر: نظرية المعرفة العلمية
(60) العلوم البحثة في الحضارة العربية والإسلامية، ص 26، مؤسسة الرسالة، ط. 2، بيروت، 1983.
(61) للتوسع في بعض هذه الجوانب انظر مقدمة ابن خلدون، ج. 3/1028 وما بعدها، و ج. 3/1263 وما بعدها.
(62) انظر تفصيل ذلك عند ابن تيمية في مقدمة في أصول التفسير، حققه محمود محمد نصار، ونشرته مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، 1988، والبرهان في علوم القرآن للزكشي. والإتقان في علوم القرآن للسيوطي.
(63) انظر تفصيل ذلك في مقدمة ابن خلدون، ج. 3/1033 وما بعدها. ومقدمة ابن الصلاح وابن دقيق العيد: الاقتراح في بيان الاصطلاح وما أضيف إلى ذلك من الأحاديث المعدودة من الصحاح (دراسة وتحقيق: قجطان عبد الحمن الدوري، مطبعة الإرشاد بغداد 1982.
(64) للتوسع ينظر صبحي الصالح: علوم الحديث ومصطلحه، ط. دار العلم للملايين بيروت، 1965، ومحمد عجاج الخطيب، السنة قبل التدوين، طبع القاهرة، 1963.
(65) مقدمة ابن خلدون، ج. 3/1019.
(66) يراجع حسين نصار: المعجم العربي، نشأته وتطوره، الجزء الأول، نشرته مكتبة مصر بالقاهرة، 1956.
(67) جاء في كشف الظنون، ج. 1/34 قوله: "اختلف في أول من صنف (في الإسلام) فقيل الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح البصري المتوفى في سنة خمس وخمسين ومائة، وقيل أبو النصر سعيد بن أبي عروبة تم صنف سفيان بن عيينة ومالك بن أنس بالمدينة وعبد الله بن وهب بمصروسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة وكان مطمح نظرهم في التدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما، ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما".
(68) الإتقان في علوم القرآن، ج. 1/32 وراجع مفتاح السعادة، ج. 1/75.
(69) الإتقان في علوم القرآن، ج. 4/33.
(70) مفتاح السعادة، ج. 1/303. وانظر  أيضا كتاب الفهرست لأبي علي اليوسي، ص 137 مخطوط بالخزانة الحسنية تحت رقم 1301.ك. الرباط، المغرب.
(71) انظر تفصيل ذلك في: حكمت نجيب عبد الحمن: دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، وعبد الله الدفاع: العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية، أنور الرفاعي: تاريخ العلوم في الإسلام وقدري حافظ طوقان: العلوم عند العرب، عمر فروخ: تاريخ العلوم عند العرب
(72) حكمت نجيب عبد الرحمن: دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، ص 242 نشرته وزارة التعليم العالي، جامعة الموصل، العراق، والكلام لهولميار في كتابه: Makers of chemistry, P : 60  .
(73) المقدمة، 3/1009.
(74) عبد الله الدفاع: العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية، ص 15.
(75) ابن الأكفاني: إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 118-119.
(76) قال أبو علي اليوسي في فهرسته، ص 137، مخطوطة الخزانة الملكية بالرباط، رقم 1301، ما نصه: "قد اشتهر كون العلوم إما عقلية وإما نقلية، وقد يقال إما إسلامية وإما فلسفية. ويزاد في هذا التقسيم أن يقال: الفلسفيات إما مقبولة في الملة وإما مردودة، والمقبولة إما مأخوذة وإما متروكة".
(77) إحياء علوم الدين، ج. 1، ص 27. ومفتاح السعادة، ج. 1، ص 30-31.
(78) رسالته في الحدود ضمن: المصطلح الفلسفي عند العرب، ص 167.
(79) المقدمة: 3/1025-1026.
(80) كشف الظنون، 1/49. وقد بين حاجي خليفة أن هناك بعض العلوم التي لا تستجيب لهذه القسمة كعلم المناظرة وعلم الجدل وعلم الخلاف، ولذلك لم يظهر له إدراجها ضمن علوم المتشرعة ! أو ضمن علوم الفلاسفة، انظر كشف الظنون، 1/11.
(81) مفاتيح العلوم للخوارزمي، ص 4.
(82) القوانين الفقهية، ص 361. وانظر اعتراض الفقيه الحسن اليوسي على تقسيم ابن جزي في كتابه: "القانون "، ص 194 وما بعدها.
(83) عبد المجيد النجار: مباحث في منهجية الفكر الإسلامي، ص 58.
(84) انظر مجموع رسائل ابن حزم: 1/43 وما بعدها (حققها إحسان عباس).
(85) للتوسع انظر بدر الدين بن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، ص 37، دار الكتب العلمية، بيروت، 1354هـ.
(86) إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 28. ولقد عبر الفقيه اليوسي عن هذا الموقف تعبيرا دالا وطريفا فقال بعد حديثه عن المنطق والفلسفة: "ولا بأس بجميعها، فنحن لا نلتفت إلى من يحرم علم شيء منها، فإن العلم في نفسه هو غذاء العقل ونزهة الروح وصفة الكمال، وإنما تختلف ثمراته في الشرف بحسب الموضـوع والغاية، وتختلف الأحكـام بحسب النية"، كتاب القانون في أحكام العلم وأحكـام العالم وأحكام المتعلم، ص 177.
(87) انظر رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا: المجلد الأول، ص 21 وما بعدها وص 56 وما بعدها، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1983 بعناية بطرس البستاني.
(88) رسائل إخوان الصفا، 2/5 وما بعدها.
(89) راجع رسائل إخوان الصفا، 3/178 وما بعدها.
(90) رسائل إخوان الصفا، 4/5 وما بعدها.
(91) رسائل إخوان الصفا، 1/49. وانظر 1/48.
(92) المصدر السابق، 1/48.
(93) انظر تفصيل ذلك في كتاب تحصيل السعادة، ص 49 وما بعدها، حققه وقدم له وعلق عليه، جعفر آل ياسين، ط. 2، دار الأندلس، بيروت، 1983.
(94) كتاب تحصيل السعادة، ص 57. وانظر أيضا مقدمة ابن خلدون، ج. 3/1128.
(95) انظر تفصيل ذلك في مفتاح السعادة، ج. 1/6 ؛ 36-37، وإحياء علوم الدين، ج. 1/25، وكتاب القانون في أحكام العلم، ص 148-149، وص 177 وما بعدها. وص 183 وما بعدها، وراجع أيضا ص 198 وما بعدها.
(96) مفتاح السعادة، ج. 1/6.
(97) مفتاح السعادة، ج. 1/30.
(98)رسائل إخوان الصفا، ج. 1/45-46. الكلام هنا طويل ولذلك عمدنا إلى كثرة الحذف منه مع الحرص على الاحتفاظ بالمعنى العام.
(99) انظر أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي: القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، ص 171.
(100) ابن جزم: رسالة مراتب العلوم، ص 90.
(101) يقول أبو علي اليوسي: "وأما العلوم الإسلامية فمنها المقصود لذاته، وهو أصول الدين وفروعه، وهي: الفقه، ومنه علم المواريث، والتصوف. ومنه الوسيلة، كعلم التفسير، وعلم الحديث، وكعلم الحساب وعلم المواقيت من علوم الأوائل، ومنه وسيلة الوسيلة كعلم القراءات، وعلم الرسم وعلم العربية بأنواعه، وعلم المنطق ونحوه. وهي كلها على العموم إسلامية\، بمعنى أنها تتعاطف في ملة الإسلام، أو أنها ينتفع بها في دين الإسلام، إما مباشرة أو بواسطة، وهي أيضا شرعية كذلك، والمشهور إطلاق الشرعية على المقصود لذاته، وما قرب منه"، القانون في أحكام العلم، ص 177، وانظر في المسألة نفسها: ابن خلدون: المقدمة، 3/1248. وإرشاد القاصد، ص 44-45.
(102) مقدمة ابن خلدون، ج. 3/1026-1027. وراجع: كشف الظنون، ج. 1/39-40.
(103) يقول علي اليوسي في نهاية حديثه عن العلوم الفلسفية: "وهذا آخر العلوم الفلسفية، وقد تواطأ على بعضها الملة والفلسفة كالعلم الإلهي والطب والعبارة والتوقيت، فهي موجودة في لسان الشرع، وأدخل منها في الملة ما عمت منفعته وعظمت فائدته، مع هذه المذكورة كالمنطق والحساب وما يحتاج إليه من علم الهيئة ومن علم الهندسة، كالتكسير، وكثير منها متروك إلا في الخصوص"، كتاب القانون في أحكام العلم، ص 176.
(104) المقدمة، 3/1130، وانظر أيضا المقدمة، 3/1120.
(105) لا نريد الدخول هنا في عرض المواقف المختلفة من بعض العلوم كالمنطق والسحر والألغاز والفلسفة، ذلك أن أغلب من رفض مثل هذه العلوم، لم يرفضوها ـ عند التأمل ـ لذاتها وإنما لبعض نتائجها
(106) مفتاح السعادة، ج. 1/28-29، وانظر أيضا: إرشاد القاصد، ص 43، وكشف الظنون، 1/23.
(107) للتوسع في هذا المفهوم يراجع: مصطفى الحداد، اللغة والفكر وفلسفة الذهن، ص 18 وما بعدها، منشورات جمعية الأعمال الاجتماعية والثقافية لكلية الآداب بتطوان، 1995.
(108) نقصد هنا قولهم: "وبالجملة ينبغي لإخواننا ألا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم كلها من أولها إلى آخرها"، رسائل إخوان الصفا، ج. 1/10.
(109) للتوسع في هذا الموقف بتفصيلاته وتعدد أوجه النقد الموجه لهذه الجماعة راجع: الامتاع والمؤانسة للتوحيدي، ج. 2/5 وما بعدها، منشورات المكتبة العصرية، بيروت/صيدا، د.ت.
(110) انظر بعض هذه المظاهر في: يوسف خوري: العلوم عند العرب، ج. 8/48، وانظر أيضا كتاب القانون لليوسي، ص 278 وما بعدها.
(111) راجع اليوسي، كتاب القانون، ص 106 وما بعدها. ومقدمة كشف الظنون، ج. 1/3-7.
(112) انظر في هذا: رسائل إخوان الصفا، ج. 1/103 وما بعدها. إرشاد القاصد، 33-36 ؛ 44-45. ومقدمة ابن خلدون، 3/1014 وما بعدها. الفارابي: كتاب تحصيل السعادة، ص 54 وما بعدها. القانون لليوسي، ص 124-140 و 154 وما بعدها.
(113) الفارابي: رسالة في فضيلة العلوم، ص 2، طبع حيدر آباد سنة 1340. وللتوسع في هذه المسألة، انظر مقدمة كشف الظنون، ج. 1/18 وما بعدها. وإرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 27 وما بعدها. وراجع أيضا اليوسي: كتاب القانون، ص 177.
(114) إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 46.
(115) كشف الظنون، ج. 1/6-7.
(116) انظر تفصيل ذلك عند الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، ص 57 وما بعدها.
(117) القانون: 151 وقارن بإحصاء العلوم، ص 53، وص 94 وما بعدها، ورسائل إخوان الصفا، ج. 1/48 وما بعدها، ومفتاح السعادة، ج. 1/347 وما بعدها. وإرشاد القاصد، ص 44-45.
(118) القانون: 154، وقارن بإحصاء العوم، ص 111.
(119) إحصاء العلوم، ص 111 وما بعدها.
(120) مفتاح السعادة، ج. 1/301 وما بعدها.
(121) المصدر السابق، ج. 1/323 وما بعدها.
(122) ويقرنه في الفصل الرابع من الكتاب بالعلم الإلهي. انظر: إحصاء العلوم، ص 111 وما بعدها.
(123) إحصاء العلوم، ص 117 وقارن بإرشاد القاصد، ص 113 وما بعدها، والقانون لليوسي، ص 155.
(124) انظر مفتاح السعادة، ج. 1/75.
(125) مفتاح السعادة، ج. 1/303.
(126) مفتاح السعادة، ج. 1/323.
(127) عبد المجيد النجار: مباحث في منهجية الفكر الإسلامي، ص 62. وللتوسع في معرفة قيمة هذا الكتاب، انظر المقدمة المفيدة التي صدره بها محققا الكتاب، كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، ط. دار الكتب العلمية، القاهرة، صص 27-75.
(128) مقدمة كشف الظنون، ج. 1/7.
(129) كتاب الفهرسة لليوسي، ص 138، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط، رقمه: 1301 ك.
(130) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، صص 116-119، وانظر القانون، 43.
(131) إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 42. وانظر أيضا نفس الكتاب، ص 34.
(132) القانون، ص 395 وانظر أيضا: الكتاب نفسه، صص 334، 428.
(133) كشف الظنون، ج. 1/7-8.
(134) إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، 33-35-46. والقانون لليوسي، 145. وكشف الظنون، ج. 1/3-9.
(135) إرشاد القاصد، ص 32، 35. وانظر أيضا الكتاب نفسه، ص 122-128.
(136) إرشاد القاصد، ص 122، وقارن بالقانون لليوسي، ص 156.
(137) نفسه، ص 122.
(138) إرشاد القاصد، ص 128، وانظر الكتاب نفسه، ص 130، 131 وقارن بالقانون لليوسي، ص 160، 163.
(139) القانون لليوسي، ص 181. وإرشاد القاصد، ص 46.
(140) انظر القانون لليوسي، ص 341 وما بعدها، وإرشاد القاصد، ص 33، وتذكرة السامع والمتكلم، ص 29 وما بعدها.
(141) إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، ص 33. وقد أفاض القدماء في الحديث عن هذه المبادئ الثمانية أو العشرة عند بعض المتأخرين، أنظر في ذلك على سبيل المثال: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي: (1/10 وما بعدها). أبجد العلوم لصديق بن حسن القنوجي: 1/189-190. والمواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار لأبي العباس المقريزي: 1/3. انظر أيضا: عباس ارحيلة: مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس الإبداع، ص 68 وما بعدها، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، طبعة 1/2003.
(142) أدرجه ضمن المباحث المتعلقة بالمفردات، إلى جانب علم مخارج الحروف وعلم اللغة وعلم الاشتقاق وعلم الصرف. انظر مفتاح السعادة، ج. 1/125.
(143) مفتاح السعادة، 1/125.





هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بارك الله في علمك وعملك ، عمل رائع جدا وممتاز، جزاك الله خيرا

    ردحذف