قراءة في مقدمة كتاب: "تاريخ آداب العرب" لمصطفى صادق الرّافعي عبد الله أيت واكريم
الرافعي عظيمٌ بلا مدرسة ، كما وصفه صاحب كتاب : عظماء بلا مدارس "عبد الله صالح الجمعة".
العظمة
التي اكتسبها الرفعي من خلال إبائه وتحديه لمرض الصمم، الذي كاد أن يكون
حدا مانعا دون نفوذ عبقريته، والإيغال في العلوم العربية وغيرها ؛ عزيمة
وإرادة تلك إذن أسلحة الرافعي وسيوفه التي شهرها في وجه المرض ، ولم يستسلم
حتى تسلّق جبال الآداب وعُدّ من أعقل عقلاء عصره ؛ والرافعي ليس كغيره
ممن يتكسبون بالآداب وممن جعل قلمه خادما ومولى يقتات به ، بل "إنه لخفيف
الشقة (1) و كانت جل كتاباته وإبداعاته خدمة للعربية ، فكان أستاذ نفسه ،
وشيخ عصره، واستعاض نقص المشيخة والأستاذية بالكتب التي سارت بها الركبان ،
وتداولها قرّاء العربية في القرن العشرين إلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها، ومن يتصفح كتب الرافعي من قبيل تحت راية القرءان ، ووحي القلم
ورسالات كثيرة... يدرك جيدا عبقرية هذا الرجل ويدرك أيضا كيف حقق الرافعي
مناط ما قرأه من أدبيات غيره من منظوم ومنثور وصاغها صياغته الخاصة ،
وحبكها حبكة الصانع الماهر كما صرح بذلك في مقدمة كتابه بقوله :"هل أنا إلا
رجل يقرأ ليكتُب ،ويكتب ليقرأَ الناس فإن أصاب فلهم ولاهم ،وإن أخطأ فعليه
وخلاهم ذم" (2)؛ فعلى سبيل المثال كتابه وحي القلم لايكاد قارئه يفهم
مغلقات الكتاب إلا إذا روى من معين العربية وتصالح مع فنونها من : نحوٍ ،
وصرفٍ ، وبلاغةٍ ، وعروضٍ ، ...فالرافعي يمكن أن أقول إنه أحكم قفل موضوعات
الكتاب ، وختمه بخاتمه الخاص ؛ ومفاتيحه تتكون مما سلف زيادة على الخبرة
بواقعه المعيش وقتئذ إذ علون جلّ فقرات الكتاب بمصطلحات استقاها من بيئته
من قبيل :حديث قِطٌين ، بنت الباشا ، زوجة إمام ،...(3) وغيرها من العناوين
، وفي ذلك كله إيماءات وإشارات وتعريضات مطبقا قولهم :"إن من لايعرف الوحي
أحمق"(4)يضربون بذلك المثل لمن لايعرف الإيماء والتعريض حتى يجاهر بما
يُراد إليه وقولهم :"إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب".(5)
وأما كتاب
تاريخ آداب العرب الذي نحن بصدده فيعد من بين نوادر الرافعي ؛ إذ جعله
بُراقاً سافر به عبرالخط الزمني للعصور الأدبية كلها قبل أن تستقر لفظة
الأدب على ماهي عليه الآن ؛ أي مذ نزل الإسلام أو بالأحرى نزول الوحي مرورا
بعهود الأربعة عشر قرنا حتى عصر الاختراعات هذا ؛ ومنذ الوهلة الأولى لمن
تصفح الكتاب يتجلى أمامه بوضوح أنه أمام كاتب ـ على اختلاف طبعات الكتاب ـ
يكتب بأسلوب أخَّاذ يملك على القارئ لبه ويستأ ثر بفكره ، إذ كلما كان
أسلوب الكتاب إلى الغموض أقرب ـ الذي يكون من قبل المتكلم ـ إلا وتجد
القارئ يجهد نفسه ويعنتها لتلجَ عوالمَ الكتاب وتورد من معينه ودرك
خصوصياته.
ـ خصوصية أخرى من خواصه ، تلك التي جعلته مرتبطا بالقرءان
الذي تذوقه بذوقه الخاص ؛حيث لم يكن يتسنّى له أن يسمع القرءان من بعض
قرّاء عصره ولو أحب ذلك، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن
يسمعه من غيره كما قال عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه
وسلم: اقرأ علي القرآن قلت آقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من
غيري (6) ، ولما كان رسول الله صلى الله وسلم مارّاً ببعض نخل المدينة فسمع
أبا موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ القرءان فجعل يستمع إليه ولما أخبر
أباموسى بذلك قال له :لو علمت أنك تستمع إلي لحبّرته لك تحبيرا(7).
ويتمثل
ارتباط الرافعي بالقرآن الكريم قراءةً وتدبراً وفهماً في تضمينه كتابه
لعددٍ من آي القرءان ، فعلى سبيل المثال لا الحصر قوله :"نفشت في واديه كل
جرباء"(8)مضمنا لقوله تعالى :"إذنفشت فيه غنم القوم "(9)، وقوله :"إلا مثل
ماهبط به آدم من ورق الجنة في قلته"(10) تمثيلا لقوله جل شأنه :"وطفقا
يخصفان عليهما من ورق الجنة"(11)وقوله :"وكأنه مشدود الوثاق(12)مضمنا لآية
:"حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق"(13) .
ـ خصوصية أخرى تضاف إلى غيرها
في عمل الرافعي كونه يدافع عن العربية في كتابه هذا وفي غيره خصوصا في تلك
المرحلة التي ألف فيها هذا الكتاب ـ تاريخ آداب العرب ـ وكتاب ـ تحت راية
القرءان ـ ففي الأول حمل فيه على المؤلفين في الأدب العربي بصفة عامة ،
ونعت طريقتهم بأوسام متعددة ، منهم من وصفه بحاطب ليل الذي يجمع كل شيء مما
يحتاج إليه ومالا حاجة به ، ومنهم من وسمه بالعجمة وضعاً ونسباً، ومن وصفه
بالهجين تارة أخرى (14) ؛ أما في كتابه الآخر فحمل فيه حملة شعواء على
دعاة القديم والحديث، الذين يتقدمهم ذ:طه حسين ، مرددا بأن العربية تنأى عن
ذلك كله ،ويحق له أن يدافع عن العربية ، مادام أنه سبر غورها ، وسبح في
بحرها سبح العوام المتقن ، وليس ممن تعوزه وتعوصه أمواجه واضطراباته ، ولم
يرض بالقليل منها ، بل دال بدلوه ليصيب حظه ، حتى ناله مستوفى تاما وتلك
مندوحة له ؛ حيث تجد كتاباته طافحة بأمثال العرب حفظا واستشهادا ولم يكن
عالة على غيره حتى ولو حذا حذوهم، بل أخذ بنصيبه فصار ينفق من أفكاره ،
أفكارٍ لن تبور ، ولم يجتر ألفاظ القوم كما وضعوها ، بل جدد سلعته وزادها
من محسنات ، مما جعلها تتفجر سحرا وبيانا وإشراقا ، فصارت تاجا مضيئا على
هامته ، كما يضع الغواص الضوء ليضيء له أسرار البحار ، ويتبصر الدرر
والجواهر واللآليء ، وليس الرافعي يدعي الكمال لنفسه ، بل الكمال لرب
الكتّاب و الأدباء وغيرهم ، وهذا كلامه يقول: "بيد أني وإن طاولت التعب
فيما استطعت من الإتقان والتجويد، وحسبت زمني في إغفال حسابه كأنه عمر ليس
فيه يوم جديد ، لا أقول إني أتيت منه على آخر الإرادة ، ولا أزعم أني أوفيت
على الغاية من الإفادة ، فلذلك أمر تنصرم دونه أعمار ، وللكمال عمر لا
يحسب بالسنين ، ولكن بالأعصار . وجهد ما بلغت من همّة النفس أن أكون بنجوة
من التقصير، وأن أدل بما جمعته من حوادث التاريخ على أن عمر التاريخ غير
قصير، ولقد رميت في ذلك المرمى القصير ، وعالجت منه الطيع والعصي؛ ولو أن
لي قلمًا ينفض مداده شبابًا على الأفهام ، ويكون في جنة هذا التاريخ آدم
الأقلام، لخرج منها وليس عليه من حلته، إلا مثل ما هبط به آدم من "ورق"
الجنة في قلته.
بيد أن الورقة من أحدهما: تعد في بركتها بأشجار، ومن
الآخر تعدل في منفعتها بأسفار، وحسبي ذلك عذرًا إن جريت على العادة في
تقديم الأعذار(15) .
هذا ماسمح به الفكر وزكّت منه القريحة إلى مخاضها بأفكار أخرى إن شاء الله
في الأخير: أقول في الأديب الأريب ، شيخ الشيوخ ، ومالك ناصية الآداب ماقاله عنه الشيخ محمد عبده ،قال :
أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفا يمحق به الباطل وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان الأوائل.(16)
هوامش العرض:
ـ
(1) يريدون إنه قليلُ المسألة للناس تعفُّفاً (مجمع الامثال لأبي الفضل
النيسابوري ــ ت (518) ــ ج ــ 1 ــ ص ــ 21 دار المعرفة بيروت .
ـ (2) تاريخ آداب العرب ج ـ 1ـ ط 2002 ـ ص ــ 10
ـ (3) وحي القلم ج ـ 1 ـ ص ـ 47 ـ 83 ـ 121 ـ ط ـ 2000
ـ (4) ويروى الْوَحَى مكان الوَحْيِ.
يضرب لمن لا يَعْرف الإيماء والتعريضَ حتى يجاهر بما يراد إليه. مجمع الامثال (مجمع الأمثال...ص ــ 13
ـ (5) يضرب لمن يحسب أنه مضطر إلى الكذب(مجمع الأمثال...ص ــ 13
ـ (6) صحيح البخاري حديث رقم(5049)
(4178)حديث رقم مصنف عبد الرزاق الصنعاني(7)ـ
ـ (8) تاريخ آداب العرب...ص ـ 7
ـ (9) سورة الأنبياء الآية ـ 77
ـ (10)تاريخ آداب العرب ...ص ـ 9
ـ (11)سورة الأعراف الآية ـ 21
ـ (12)تاريخ آداب العرب ...ص 7
ـ (13)سورة محمد الآية ـ 4
ـ (14)تاريخ آداب العرب ...ص ـ 7 ـ 9 ـ 13
ـ (15)تاريخ آداب العرب ــ ص ـ 9
ـ (16) كتاب عظماء بلا مدارس ـ ص90
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق